السبت، 22 نوفمبر 2008

العاصفة الاقتصادية 2008 بعد عاصفة الطائرات 2001- يوسف بعدراني

وردتني هذه النظرة العميقة للازمة المالية التي تعصف بالعالم والتي ، حسب رؤية وفهم الشيخ يوسف بعدراني، ليست اكثر من 9/11 اقتصادية ولكنها اكبر حجما واكثر خطورة من 11-9 2001 . هناك عدة مفاصل فيما جاء في هذه النظرة تحتاج لنقاشات اوسع نتركها لمداخلات الشباب. والله الهادي الى سواء السبيل

----------------------
11/9 اقتصادي
العاصفة الاقتصادية 2008 بعد عاصفة الطائرات 2001

الأزمة الاقتصادية التي تجتاح العالم هي في حقيقتها أزمة نظام بل أزمة فكر وأخلاق ولا علاقة للاقتصاد بها وليس أدلَّ على هذا من تصريحات جميع الاقتصاديين أن الأسس الاقتصادية متينة جداً ولن تتأثر وأنها مجرد أزمة سيعود بعدها الاقتصاد أقوى مما كان عليه. هذا إذا صحَّ اعتبارها أزمةً نَتَجَت بطبيعتها عن طبيعةِ نظام أو إذا كانت مفتَعَلَةً. بحثنا لن نتطرق فيه إلى سبب الأزمة لأن الكلام فيه لا يجدي وهو أشبه بالثرثرة لكثرة تداوله. هناك أقاويل حول أنَّ هذه الأزمة هي مفتَعَلَة مِن قِبَلِ الحكومة الأمريكية مثل أحداث عاصفة الطائرات في 11/9/2001 التي كانت تمهيداً لتنفيذ برنامج أمريكي لاحتلال بلاد المسلمين منفردة. نحن جزمنا أنَّ أحداث 11/9 كانت، فكرةً وتخطيطاً وتنفيذاً، عملاً قامت به الحكومة الأمريكية لتنفيذ خطتها السياسية الجديدة باختطاف العالم. لا نعترض على الذي يقول إنَّ هذه أيضاً مؤامرة منذ البداية لأنَّ هذا لا يؤثِّر في بحثها. لكن رأينا هنا في موضوع الأزمة الاقتصادية نقول إنها لم تكن ابتداءً مِن تخطيط الحكومة لكن لما تيقَّنَت الحكومة أنَّ الأسواق تسير في طريق الانهيار تلقَّفَت المناسبة ووضعت خطة جبارة لاستحداث وضعٍ مالي يسهل فيه ضرب رؤوس أموال الدول وخاصة الأوروبية منها والسيطرة عليها بعد تحجيمها إلى الحدِّ الأدنى وشلِّ طاقتها التوسعية في المستَقبَل وبذلك تضرب طاقة النمو في دولها. ولاستحداث التغييرات التي كان من المستحيل أن تقوم بها منفردةً أو بفرض صيغتها بسبب المعارَضَة العارمة مِنَ قوى السوق المالية محلياً ودولياً وبسبب معارضة القوى السياسية الرئيسة دولياً.
وقائع العاصفة ابتداءً تحتمل المؤامرة لكن الدلائل التي تشير إلى أنها مؤامرة الحكومة الأمريكية التبَس فهمها لأنه لم يقم أحدٌ بربطها وبذلك بقيت عندَ الخبراء متناثرة مستقلةً بموضوعها. الموضوع أنَّ الحكومة الأمريكية لاحظت منذ فترة طويلة أي منذ أكثر مِن سنتين أنَّ الفارق بين سعر السِّلَع الحقيقي وسعرها في التداول أصبح يفوق قدرة الكتلة النقدية على استيعابه. عندما نقول أكثر مِن سنتين يعني قبل أي إشارة علنية من السوق وقبل بدء وقوع أحداث تنم عن هشاشة السوق النقدي. عندما نقول سعر السِّلَع نعني البيوع الفورية والآجِلَة لأنَّ العقار كسلعة والنفط والمواد الغذائية وكلَّ شيء يتم بيعه وشراءه يداً بيد لا يمكن أن يسبب أزمة مالية لأن الأصل أنَّ النقد لتمويل تبادلها والخدمات المتَعلِّقة بها أو تنتج عنها وعن نظام تبادل منفعتها وملكيتها. كلفة تمويل السوق الآجلة بلغت ستمئة تريليون دولار بينما العقار 19 تريليون، طبعاً هذا لا يعني أنَّ هذه مبالغ مالية دُفِعَت أو تمَّ صرفها فأثَّرت على انعدام السيولة لأن عقود البيوع الآجِلَة عقود وعود تموَّل بفوائد على الوعود وليس بدفع ثمن الوعد إلا في حالَة الاستلام والتسليم. لكنَّ أعباء هذا الكم الهائل مِنَ الوعود بلغت ستين تريليون دولار. الذي يمكن أن يسبِّب أزمة نقد هو اصطناع سوق بدون حدود لطاقته أو مداه أو حجمه مثل "سوق الوعود" أو ما يسمونه سوق البيوع الآجِلَة أو سوق المشتَقات المالية. لكنه أيضاً لا يستحدِث أزمة مثل هذه الأزمة لأن الذي يضمن محكوم بقوانين وحدود لا يستطيع تجاوزها.
هذه الأزمة لايمكن أن تقَع إلا ضمن برنامج سياسي بقرار خطة فيها نظام احتساب نتائجها مِن جميع جوانبها لأنها تستلزم التغاضي عن تنفيذ القوانين التي تحكم النقد ودوره والتسليف وأحكامه والتجارة وطاقتها والرأسمال وإنتاجه. وقوع جميع هذه القطاعات في أجواء تسمح بالتعامل خارج أنظمتها لا يمكن أن يقع بالصدفة بل بخطة إخضاع لأنه لا يمكن تعطيل أجهزة متعدِّدة إلا بإرادة الحكم التي تسيطر على قرار الإجراءات في هذه الأجهزة.
آلية الأنظمة المالية والإجراءات وأجهزة الرقابة النقدية وتعدد المجالس والأسواق المالية وسلطة الاحتياط الفدرالي ووزارة المالية وعشرات بل مئات المجالس والإدارات الرديفة والمتخصِّصة في المجالين المالي والنقدي يجعل السوق النقدي والمالي والاقتصادي برمته تحت المجهر الدائم. استحالة وقوع خلَل في السوق والجزم بأنَّ السلطات النقدية والسياسية كانت تعلم بوقوع ما وقع أمر لا يحتاج إلى بحث وحتى أنه في الأخبار والتحليلات الاقتصادية أمر ثابت متَوَافَق عليه وقد قالَ به كل ذي رأي بالموضوع. وهذا أحد الدلائل الذي يستدل به الذين يقولون إنه عمل الحكومة الأمريكية لأنهم يظنون أنها كانت قادرة على تلافي وقوع الأزمة لو أرادت ذلك. فَهْمُ لماذا ارتفع سعر النفط يوضِح أنها لم تكن تستطيع معالَجَة الأزمة قبل أن تمتلك أدوات المعالَجَة. الربط بين سعر النفط وأسباب الأزمة وبين إمكانية الخبراء وساسة الاقتصاد فيما يمكن أن يقدِموا عليه في الظروف التي ستسمح للحكومة الأمريكية القيام بإجراءات يوضِح أنَّ رفع سعر النفط ومعه الغذاء هو السبيل الوحيد لزيادة القدرة النقدية للحكومة للقيام بما يمكن أن تقوم به.
خطر عدم وجود كتلة نقدية تمويلية تغطي الطلب يعني سقوط الأسعار حتى الحد الذي تستطيع الكتلة النقدية التمويلية تغطيته، هذا في الكلام الدقيق أو النظري لكن بالواقع أنَّ ليس جميع مطلوبات السوق المالية والمستَحَقات العقارية تتحقَّق في اليوم نفسه، ولذلك هناك إمكانية للحفاظ على فارق لا بأس به بين القيمة الحقيقية والقيمة المتداوَلَة ومنها القيمة التي تشمل ربح المضارِب وفائدة التمويل. عندما يقل هامش الفارق النقدي عن فارق حركة السوق العادية بين الذي يبيع ويشتري أي بين العرض والطلب يعني أن يقل الشراء عن النسبة العادية للمعروض. مِثال ما حصل بين سعر العقار الحقيقي في أمريكا تسعة تريليونات دولار وبين السعر التمويلي للسوق الذي بلغ تسعة عشر تريليون دولار، الفرق عشرة تريليونات هو السعر التضخمي الذي لا يقابله رهن واقعي بل رهن ورقي. هذا كان يمكن أن يستمر ويقوم السوق بالتصحيح التدريجي في الحالات العادية لو كان في الكتلة النقدية فائض كافٍ لفترة التصحيح. لكن انتفاخ سوق الأسهم وسوق المشتقات المالية في الوقت نفسه يمكن أن يمتصَّ الهامش النقدي الذي يستحدث الفرصة لإعلان أزمة نقد. وعندما يحصل هذا يبدأ السوق بالاهتزاز لأنه يذهب باتجاه تزايد طلبه على النقد لتمويل جمود الحركة المالية وهي القروض التي تؤمِّن توازن البيع والشراء ما يخفِّف ضغط الفرق بين الكتلة النقدية وحاجة السوق. هذا يحصل كل يوم وفي كل لحظة لأنَّ الكتلة النقدية في النظام الرأسمالي تقوم على حساب الرياضيات لأنها لا يمكن أن تقوم على طبيعة النقد. طبيعة النقد الطبيعية يجب أن تكون جزءاً مِنَ الطبيعة أي مِنَ الموجود في الطبيعة ومِنَ المخلوق مع الطبيعة ومنذ اليوم الأول لإيجادها لأن الإنسان الأول كان بحاجةٍ للنقد كما إنسان اليوم. وأيضاً لأنَّ النقد بحاجةٍ إلى آليَّةٍ لقياس الأشياء به ولقياسه بها تنبثق مِن ذاته لا مِن آليةٍ مفروضة عليه وعلى الناس للقبول بها أو الاستعاضة عنها بنظامٍ حسابي.
طبيعة النقد أو موضوع النقد ليس موضوعنا هنا لأن البحث هو في لماذا الذي يحصل كانت تعلم الحكومة الأمريكية بأنه سيحدث ولم تتلافاه. الحكومة كانت تعلَم أنَّ هذا الذي يحصل سيقع لكنها كانت تعلم أيضاً أنها لا تستطيع منعه أو التخفيف من شدَّته وأنَّ أقصى ما تستطيع فعله هو التهيؤ لمعالَجَة آثاره والاستفادة مِن وضعه خاصة بعد أن بلغ سوق المشتقات المالية 600 تريليون دولار. النظام الرأسمالي ليس نظاماً عقلياً لأنَّ العقل لا يمكن أن يقبل أي فكرٍ مِن أفكاره. إنه نظام غريزي لأنه يعتمد في غايته على إشباع الغرائز لا على غايته التي يحدِّدها العقل المنبَثِق عن الفكرة الكلية للحياة والإنسان والوجود. الغرائز عندما تفرض على العقل غاياتها تتحول لأن تكون هي طاقة وسبب عمله وتقوده في تسخير طاقته الإبداعية فيصبح كلُّ ما ينتِجه يتعلَّق بارتدادٍ أو إشباعٍ غريزي. لذلك حلول مشاكله لا تصدر إلا مِنَ فكرٍ ينشأ عن الفكر الذي صاغته عقولهم لتلبية حاجة الغريزة ابتداءً بغضِّ النظر عن الموضوع إذا كان أصلاً أو فرعاً أو نتيجةً أو معالَجَةً. أي أن معالَجَة أي مشكلة يجب أن تكون مِن جنس الفكر الذي نشأت عنه المشكلة. المعالَجَة الوحيدة التي كان يمكن أن تخطر على بال جميع الاقتصاديين الغربيين أو اقتصاديي النظام الرأسمالي هي زيادة الكتلة النقدية بكمية هائلة وبسرعة قصوى حتى تتم السيطرة على الانهيار بسبب قلة النقد بدفقٍ هائلٍ مِنَ السيولة.
الأمر الثاني في حصول ’الكارثة‘ الاقتصادية أنها مناسبة نادرة لاستحداث تعديلات رقابية وتشريعية تحت الوطأة التي تمنع اختلاف السياسيين والحزبين عليها. الأزمة أمريكية لكنها تحوَّلَت إلى عالمية والتعديلات أمريكية محلية لكنها ستؤثر في العالم وهنا السر في المؤامرة التي تصوغها أمريكا والتي سيسري مفعولها كالسم في العروق من دون أثرٍ ظاهرٍ له.
النفط هو السلعة الوحيدة التي يمكن أن ترفع كتلة النقد العالمية والدولار الذي يشكِّل 60% مِن الكتلة النقدية العالمية بكمية هائلة وبسرعة قصوى. النفط لوحده لا يمكن أن يؤثِّر لوحده في حجم الكتلة النقدية لأنَّ مجموع قيمته حوالي ثلاث تريليونات دولار لكنه بالضجة الإعلامية المزَيَّفَة يمكن أن تَفرضه أمريكا مبرِّراً لشحِّ الدولار في ساعة التوقيت التي تشاؤها. الاقتصاديون والسياسيون الأمريكيون لم يتأخروا بأخذ قرار رفع سعر النفط بأسلوب المضارَبَة عليه في الأسواق المالية بل بادروا فوراً وبتصميم حازم لا تردد فيه. كان واضِحاً وضوحَ الشمس أن الحكومة الأمريكية وراء رفع السعر، وكان واضِحاً جلياً أن الحكومة الأمريكية تتآمر لترفع كتلة الدولار النقدية أساساً وملحقاً بها الكتلة النقدية الدولية دون أن يلحَظَ أحد زيادة طبع كميات الدولار الورقية زيادةً هائلة
بدأ رفع سعر النفط بداية الربع الرابع من عام 2007 حيث كان التوازن بين العرض والطلب قائماً، ولم يكن في الواقع ولا في الأفق ما يبرر اختلال التوازن وبالتالي الارتفاع، كذلك سعر الغذاء. ارتفاع السعر بدون اختلال عامل التوازن لا يكون إلا بقوة كتلة نقدية هائلة بالنسبة للسلعة موضوع المضاربة. لا يوجَد كتلة نقدية في العالم تستطيع التأثير في المضارَبَة في سلعة النفط أو الغذاء إلا كتلة الحكومة الأمريكية عبر المؤسسات التجارية التي تخضع لإمرتها. هذا الواقع هو الدليل على أنَّ الحكومة الأمريكية كانت وراء رفع سعر النفط لزيادة الكتلة النقدية التي هي الغاية مِنَ المؤامرة. الحكومة لا تعلن كم زادت في طبع الأوراق النقدية، لكن أهل الخبرة البسيطة في آلية السوق النقدية يمكنهم بقليل مِنَ الجهد الوصول إلى الرقم التقريبي. هنا كانت مؤامرة الحكومة الأمريكية في موضوع الأزمة الحالي: مؤامرة في الإجراء وقد لا تكون في السبب ولذلك يجب الفصل بين الأمرين وإن كان عدم الفصل قد لا يؤثِّر في فهم تحديد مسار الأمور في المستقبل.
أعضاء الكونغرس الأمريكي عقدوا لقاءَ مساءَلَةٍ مع وزير الخزانة الأمريكي بولسون ورئيس الاحتياط الفدرالي برنانكه عن موضوع ارتفاع سعر النفط الذي كانت الحكومة الأمريكية تكذب كل يوم عن سببه. كذاب 11/9 كان تقريباً يدلي بتصريح يومي عن سبب ارتفاع النفط أنه حاجة السوق التي لا تلبيها دول أوبك. وقد كذَّبه كثير مِن مسئولي أوبك وقالوا إنَّ السبب هو مضارَبَة الرأسماليين الأمريكيين في سوق النفط وهو الذي يرفع السعر وتمَّ تكذيبه واتهامه مباشرةً على لسان أعلى المستويات لكن لم يرفَّ له جفن. الإنسان بإنسانيةٍ لا يمكن أن لا يرِفَّ له جَفْنُ الإنسانية إذا اتهموه بالكذب، وحده إنسان الديمقراطية لا يرفّ له جفن الإنسانية لانعدامها فيه. بوش كان يتهم العالم بالتآمر على أمريكا بسبب نقص الإنتاج! جلسة المساءَلَة نقلتها وسائل الإعلام المرئي مباشَرَةً، كلنا شاهدنا أحد الشيوخ الذين لا يفهمون اللعبة الشيطانية، بدا غاضِباًً بتأثره مِن ارتفاع سعر النفط توجه بالحديث إلى برنانكه: أسعار النفط ترتفع وتسوقون أسباباً لا يمكن تبريرها، الشعب الأمريكي يئِنّ مِن ارتفاع سعر النفط، لماذا هذا الارتفاع الجنوني؟ هل نحن وراءه كما تقول الادعاءات والشائعات؟ أجابه بيرنانكه وبريق عيني الثعلب يشعّ في نظراته: السبب هو الخَلَل بين العرض والطلب واحتكار أوبك للنفط وتعنت السعودية ورفضها لزيادة الإنتاج الذي نطالبها به كل يوم والرئيس بنفسه كرر طلب زيادة إنتاجها عدة مرات لكنها ترفض مدَّنا ومدّ العالم بالنفط. الشيخ الأمريكي لم يقبل ما ردَّ به بيرنانكه وكأنه أصرَّ أن يفضح كذبه لكن بسؤال آخر في موضوع مغاير فقال له: التقارير تشير إلى أنَّ الحكومة تستغل ارتفاع سعر النفط لتزيد طبع دولار الأوراق النقدية، هناك خبراء يقولون إنكم طبعتم أربع ترليون دولار وآخرون يقولون طبعتم تريليوني دولار، هل يمكن أن نعرف كم طبعتم؟ هل يوجَد مَن يعرف كم طَبَعَت سلطة النقد من الأوراق المالية؟ أجاب بلؤم الكذاب المتآمر في الموضوع، تماماً كما كان يتحدث تشيني وبوش إلى الأمريكيين عن أحداث 11/9 وأنَّ المسلمين وراءها: لا، لا يمكن أن نعرف، لا أحد يعرف!
رفع أسعار النفط هو المؤامرة أو الإجراء الذي سيسمح بمواجهة الأزمة والسيطرة عليها وعلى نتائجها، لكن الأهم هو الذي سيسمح بإخضاع السوق المالية الأمريكية والدولية للتسليم والقبول بالإجراءات التي ستفرضها أمريكا بحجَّة أنها إصلاحات!
الحقيقة أنَّ الإصلاحات ذرٌّ للرماد في العيون حتى لا يرى أحد أين تكمن الحقيقة في المؤامرة. الحقيقة أن سبب المؤامرة بسيط وواضح وهو في حجم الكتلة النقدية. بعد هذه الأزمة سيتقلَّص الفارق الانتفاخي بين العرض والطلب وبالتالي لن يحتاج السوق للترليونات التي طبعتها أمريكا، أين ستقبع وما هو دورها هو الذي سيرسم أبعاد المؤامرة.
كثيرة هي الأقوال في هذه الأيام عن سقوط أمريكا من دور القوة الاقتصادية العظمى. قال هذا الروس والألمان والفرنسيون وكثير من الخبراء الأمريكيين. أقوالهم لا يمكن ترجمتها وليست أكثر مِن كلمات، معنى الكلام يرتبط بواقعه: ماذا تشكِّل روسيا كطاقة في الاقتصاد العالمي؟ ليس أكثر مِن صفر! ألمانيا تتحكَّم باقتصادها الصناعي والمالي الرساميلُ الأمريكية وكذلك اليابان وكوريا ومعظم الدول الأخرى حالتها أضعف. الصين تعيش وتنمو على فتات السوق الأمريكي. بريطانيا طلبت قرضاً مِن أمريكا بقيمة 170 مليار دولار لمواجهة الأزمة الطارئة. دول النفط الخليجية لا تملك قراراً ولا حتى في امتلاك نقدها. طالما أن جميع هذه الدول تدور في فَلَك الفكر الرأسمالي أو تَبَعاً له، أو لا يعرفون غيره ويمارسون سياسته ويلتزمون إجراءاته ويسعون في غاياته، لا يوجَد ما يبرر هذه الأقوال. لا يمكن أن توجَدَ قوة تواجه قوة أمريكا الاقتصادية إلا إذا سيطرت أيديولوجية جديدة ينبثق عنها فكر اقتصادي شامل للاقتصاد والنقد والتجارة. لا يوجَد عند الإنسان اليوم غير أيديولوجية الرأسمالية الديمقراطية في السلطة وأيديولوجية الإسلام التي ليست اليوم في السلطة. القيود والإجراءات التي سيعلَن عنها قريباً ستضبط حركة التمويل في العالَم لتكون ضمن نسبٍ صارمة مِن الكتلة النقدية المتَوافِرَة للدول. نسبة النقد لحاجة الدول للتمويل في واقعها أنها في معظم الدول نسبة تافهة ستضغط على النمو الاقتصادي في معظَم الدول. حتى دول الاتحاد الأوروبي ستكون تحت وطأة الشحِّ النقدي. وحدها أمريكا ستكون كتلتها أكبر مِن حاجتها ما سيجعلها المسيطر الأول على سوق السيولة النقدية في العالم. أمريكا ستخرج مِن هذه الأزمة كزعيمة أقوى في عالم تُقاسُ فيه القوة بحجم السيولة التي بها يمكن السيطرة على الاقتصاديات المؤثِّرَة بفضل السيولة الإضافية التي وفَّرَتها لها هذه الخطة؛ "خطة أزمة النقد". وبفضل الحاجة التي استطاعت أمريكا فرضها على العالم بوجوب وضع إجراءات وإصلاحات تسليفية جديدة يتأثر بها الجميع إلا أمريكا لأن الإصلاحات تتعلَّق بفرض تحديد نسبٍ للإقراض تنبثق عن قدرة السوق على الانتفاخ وليس على القيمة الحقيقية للسلعة أو آلية تسعير السلعة والمنفعة في العين كما هو في ظاهر الكلام عن الإصلاحات الإجرائية والرقابية.
سر المؤامرة الجديدة يتعلق بالكتلة النقدية ووفرة السيولة لأنه يجعل طاقتها ضمن القيود الجديدة هي نظام التقويم وهي المرجعية لخطط النمو الاقتصادي. أي أن الإصلاحات تربط بين حاجة التمويل وإجراءاته وليس بين حاجة التمويل وطاقة السوق، ما سيجعل النمو الاقتصادي محكوماً بقدرة الدولة ذات السوق الذي تكبر فيه طاقته التمويلية عن غيره مِنَ الأسواق. والدولار الذي كانت نسبته 60% من سوق كانت حجم كتلته النقدية مئة دولار مثلاً ستبقى نسبته 60% لكن مِن سوقٍ حجمه 95 دولاراً مع زيادة في كتلة الدولار تمَّ طبعها خِلسَةً، نحن نقدرها بما نحن عليه مِن بساطة بأربعة تريليونات باحتساب ارتفاع سعر النفط لفترة وجيزة هي فترة الوقت اللازم للطبع. لكن مع احتساب المواد الأولية والغذائية فإن الرقم قد يزيد، لذلك لا أحد يعرف حقيقة المؤامرة الأمريكية الجديدة حتى وضوح الإجراءات الإصلاحية الأمريكية ووضوح الفهم الأوروبي للموقف النقدي الجديد.
مِنَ البداية، كان واضِحاً أنَّ أوروبا لم تكن على وعيٍ تام بما يجري لكن بعد صدور مواقفها الحاسمة بتأمين تريليوني دولار لفرض الاستقرار على الأسواق، هناك دلائل على أنها تماسكت وفهمت أن المؤامرة عليها أولاً وأنها قررت التصدي لها. الذي جنَّ جنونه هو الذي عدّها صفعةً قويةً لشخصه واستهزاءً بثقافته الاقتصادية وذكائه الفطري( !!) هو الذي استطاع التأثير في ازدهار الاقتصاد البريطاني طوال سنين متتالية وظنَّ أنه نفَّذ الخطةَ المثالية في صياغة التشريعات وتنفيذ الإصلاحات المالية التي تحفظ السوق المالي الإنكليزي مِنَ التأثيرات الخارجية وبذلك يحفظ نمو الاقتصاد البريطاني.

(((
‼ عندما يوصَفُ شخص بالذكاء الفطري فهذا يعني أنه يتعامل مع الموضوع بطاقته الغريزية وليس بثقافته في الموضوع، وغالباً ما يكون هذا القول إهانةً للرجل لأنه اتهامٌ له صريح أنه جاهل بمعطيات الموضوع لأن الفهم بالارتداد الغريزي ليس فهماً في الموضوع بل هو فهم لظاهره أو في وجه مِن أوجهه. لكن في حالة غوردن براون نصحِّح هذه المقولة لنضع الأمور في نِصابها وإنصافاً لعبقريته التي لم يعد يعترف بها غير فلانٍ مع قليلٍ مِنَ الناس. اللوم على براون ليس لأنه لم يفهم أو أن فهمه للرأسمالية الديمقراطية أو الليبرالية الرأسمالية لم يكن فهماً لأفكارها، اللوم على براون لأته لم يفهم الخطأ والجريمة والخبث في فكر الرأسمالية الديمقراطية منذ البداية. فكر الرأسمالية الديمقراطية ليس فكراً إنسانياً، وهنا يلزم توضيح معنى الفكر الإنساني أنه ليس الفكر الذي يساعد الإنسان بل الذي يصدر عن إنسان. الفكر حتى يصدر عن إنسان يجب أن يصدر بنظام التفكير الذي اختصَّ الله به الإنسان فإن صدَرَ بغير هذا النظام فهو فكر شيطان لأنه فكر بغير طريقته والفرق بينهما كما الفرق بين زواج الرجل بامرأة وزواج المثْلَين. غباء براون ابتداءً أنه لم يتعرَّف إلى مغالَطَةِ الفكر الرأسمالي لواقع الاقتصاد والنقد بمعطيات طبيعته وعلاقة نظامه بهذه الطبيعة وليس بمعطياتها ووجوب ارتباط نتائجه بغاية معطياته الطبيعية. براون لا يمكنه أن يفعل أكثر مما فعل، ولا يمكن لغيره أن يفعل أكثر منه، خدعة أمريكا أو محاولة أمريكا للسيطرة النقدية المطلَقَة على الاقتصاد هو عمل يحتِّمه فكر الرأسمالية الديمقراطية وليس فكراً طارئاً. أو أنَّ الخبث فيه هو ليس مِن جنسه، ليس هناك في الجنس البشري أكثرُ جشعاً مِنَ الذي تثقَّف بثقافة الفكر الرأسمالي الديمقراطي بعمقٍ أكثر مِن غيره. ))))
خروج براون إلى العلَن باتهام أمريكا أنها السبب بهذه الأزمة لأنه أدرك حجم المؤامَرة على بريطانيا بالذات رغمَ معرفته الحقيقية أنها أيضاً على ألمانيا بالذات وعلى كلِّ دولةٍ أوروبية بالذات إلا أنه كان يعرف أنَّ اقتصاد الدول الأخرى سيُنهَك ولكنه سيتعافى وإن إلى حدود السقف الذي ستفرضه الخطَّة الأمريكية. براون يدرك أنَّ الخطَّةَ الأمريكية تقضي بتغيير قواعد اللعبة الاقتصادية الدولية مِن تحكَّم طاقة السوق بالنقد إلى تحكُّم طاقة النقد بالسوق. اقتصاد بريطانيا يقوم منذ نشوئه على أنها مركزٌ للخدمات المالية للعالم لا ضرورَة لأن يكون ذلك بنقدها بل بأيِّ نقدٍ يتوافر لها تستطيع امتلاكه أو استعارته أو تسخيره؛ نقد أمريكا وغيرها كان بمتناولها دائماً. أمريكا، فجأةً قررت إنهاء هذا الدور بفرض الظروف التي تمنع توافر النقد وهو السلعة التي يقوم عليها اقتصاد الخدمات المالية. أو بفرض الظروف التي تقلِّص السوق لهذه الخدمات إلى الحدِّ الذي يُقيت ولا يُميت. براون لم يجِنَّ جنونه بسبب تآمر أمريكا على بريطانيا، فهذا يحصل كلَّ يوم وفي كلِّ خطَّةٍ سياسيةٍ حول العالم، براون جنَّ لأنه ليس بيده حلّ، أو عميَ عليه أن يرى مخرجاً. لكنه وهو الهالِك قرَّر أن يسير بالمعالَجَة التي لا بدَّ منها والتي لا يوجَد غيرها في القاموس الحاضِر وهي ضخُّ البلايين بالمئات. نسبة الاقتصاد البريطاني إلى الأمريكي ضئيلة جداً بمقارَنَة نفوذها الدولي بالنسبة إلى النفوذ الأمريكي. عندما قرَّرَ براون ضخَّ سيولَة نقدية في السوق البريطاني ضخَّ سيولَةً أكثر مما ضخَّت أمريكا، لماذا؟
أمريكا عندما تضخ السيولة فهو جزء مِن فصول المسرحية وليس جزءاً مِن عملٍ حقيقي، بريطانيا عندما تفعل فذلك مِن أجل الحياة وعدم الموت. ألمانيا كذلك، لكن لغير أسباب الإنكليز، اساس اقتصاد ألمانيا هو الصناعة وبيع هذه المنتَجات. ضربة أمريكا في تجفيف النقد هو في حقيقته تجفيف لمنابع النقد التي تموِّل التسليفات الدولية والمحلية، وهو ما يفرض خفض سقف التداول التجاري والمحلي إلى حدود الكتلة النقدية التي يملكها الطرفان في التبادل محليا أو دولياً. أكثر الدول الاقتصادية التي تتأثر في العالم هي المانيا وفرنسا، ألمانيا مِن أجل الحياة وعدم الدخول في عالم الموات ـ وهو الموت السريري ـ ضخَّت في سوقها، الصغير جداً بالمقارنة مع السوق الأمريكي رغم أنه ثاني أو ثالث أكبر الأسواق العالمية، أكثر مما ضخَّت أمريكا في سوقها. وفرنسا ضخت بمقدار ما ضخَّته أمريكا تقريباً أو أقل بقليل! دولة اسكندنافية لا يتجاوز عدد سكانها بضعة ملايين ضخَّت مئتي بليون دولار بينما أمريكا ضخَّت فقط سبعمئة بليون، ما يؤكِّد أن دولةً ضاربة تسيطر على تفاعلات مجرى الأمور ودولة تنهال عليها الضربات لا ترى مخرجاً فهي تفعل المستحيل وتقذف بكل ما تستطيع رميه حتى تبقى سفينةً عائمةً ولو في ’المغطس‘ الأمريكي الذي لايعوم فيه إلا ’صيصان‘ الفَرخَة.
أمريكا تقترح وكالة دولية لتنظيم السوق ـ GLOBAL REGULATORY AGENCY ـ بينما بريطانيا تقترح مركزاً مالياً استشعارياً ـ INT SENSOR CENTER ـ اسم كلٍّ منها يفضح القصد الأمريكي مِن الإعصار المالي وخطة بريطانيا على مواجهتها. لكن هل أمريكا تريد فعلاً خفضَ سقف الحركة السوقية الدولية أو تحجيم الحركة المالية الدولية وتبقى هي مسيطرة على السوق التي يتم تصغيرها؟ أم أنها تريد أن ينفلش السوق إلى ما كان عليه السوق بعد أن تكون قد استعادت سيطرتها أو أضعفت إمكانيات الدول التي تشاركها أدوات السوق لتكون هي الشريك الذي يفرض وليس الشريك الأبرز الذي يشارك بقوة وله تأثير كبير لكنه لا يجني بقدر تأثيره؟ سؤال لا يحتاج إلى جواب لكلِّ مَن يعرف كيف يعمل عقل الفيلسوف الإنكليزي الذي أنشأ أفكار الرأسمالية الديمقراطية.
رئيس دورة الإتحاد الأوروبي ساركوزي يصرِّح عند وصوله إلى واشنطن للقاء بوش برفقة رئيس المجلس الدائم باروسو في 18/10/08 بلغة التهديد وإن كان ليس بلهجتها: نحضر إلى هنا ومعنا تفويض من ال27 دولة أوروبية التي اجتمعت بشأن الأزمة المالية الدولية وأنها تريد اجتماع قمة عالمية سريعاً للاتفاق على إجراءات مالية جديدة. بعد لقائهم صرح بوش إنه يرى إمكانية لعقد الاجتماع بعد شهر! ساركوزي يصرِّح: يستحيل أن تستمر أمريكا بالتحكم بالسياسة المالية للعالم. بوش لا يعلق.
مسئول مالي أوروبي مِنَ الدرجة الأعلى يصرِّح في 20/10/08 إن هذه الأزمة هي زلزال مستمر! هذا هو الوصف الدقيق الذي لم يستطع أحد أن يصفه بهذا التشبيه الواقعي لأن مثل هذا التشبيه لا يأتي إلا مِن فهمٍ للحالة يلتصق أو ينبثق مِن بُعدِ الحدث وهو ما لا يستطيعه المحلِّل الذي يعتمد على فهم الخبر منفصلاً عن فكر مصدر الحدث. ربط الخبر بمصدره الفكري هو الذي يحدِّد بُعده الفكري والواقعي. لذلك هو ليس تنبؤاً أو افتراضاً أو تخميناً بل هو فكرٌ يَنتُج عن واقعِ فكر. خطة أمريكا في إحداث هذه الهزة المالية الدولية هو أن تستمر ارتداداتها طويلاً في الجنس الأوروبي. ومِن مظاهر تمرير المؤامرة رغم أنف الأوروبيين هو رفع وتيرة التلاعب بأسواق الأسهم ليكون استقرار هذه الأسواق هو المطلَب وليس الإصلاحات المالية الدولية التي تريدها أوروبا. أمريكا تريد إصلاحات مالية تفرض أن تتصرف كل دولة بإمكانياتها النقدية. هذا يسمح لأمريكا أن تتلاعب باقتصاديات الدول منفردة وبالأسواق الدولية مجتمعة لأنها تعتمد على السوق المحلي الأمريكي وعلى النقد الأمريكي وسيولته لتحقيق سياساتها وأهدافها المالية والاقتصادية والتجارية.

أبحاث "الإصلاح المالي" ومفاوضاته ستطول لكن لن تكون "إصلاحات" بل تعديلات لأن الإصلاح يتأتى مِن فكر وليس من تغيير في إجراء. إصلاح الإجراءت هو تعديل مِن ذات فكر الإجراء السابق يؤدي إلى معالَجَة الحالَة الآنية بتغييرها وليس حتى بإصلاحها لكن لأن تغييرها يأخذ وقتا طويلاً مِنَ الممارَسَة لا يلحظ المراقب أنها حركة تغييرية. هكذا مع الزمن تصبح الحالة الجديدة أزمة تحتاج إلى "إصلاح". الإصلاح لا يكون إلا بتغيير نظرة الفكر الرأسمالي إلى النقد والاقتصاد والإنسان كنائب وممثلٍ عن الحياة والوجود والمصير، هل يمكن ذلك؟ لا، لا يمكن تغيير نظرة الرأسمالية الديمقراطية إلى الوجود الذي منه الحياة؛ حياتنا، نحن البشر. النظرة إلى الوجود هي الفكر الذي يبحث في سبب الوجود؛ وجودنا نحن. فكر سبب الوجود هو فكر ما قبل وجودنا الذي يبحث في كيفية وجودنا وسببه. وهو الفكر الذي يبحث في سبب وجودنا نحن البشر مرتبطاً بفكرِ مصيرِ حياةِ الفرد ليس بالموت الذي يدخل فيه كلَّ مَن سبقنا وندخل فيه واحداً واحداً، كلٌّ منّا يدفن مَن يسبقه، بل بما بعدَ الموت. فكر المصير لا يأتي مِنَ استنتاج عقل الفرد الإنسان بل يأتي مِن مصدر فكر كيفية وجودنا وسببه لا مِن استنباطِ الواحِدِ منّا.
الفكر الرأسمالي هو صناعةُ عقلِ فردٍ منا لا يمكن إصلاحه بتغيير النظرة إلى النقد والاقتصاد والإنسان إلا بنقضه جملَةً وتفصيلاً، أصلاً وفروعا، وهذا غير مطروح مِن غيري وأنا أكثر الناس عجزاً في هذا الأمر. إني وإن أقوم به وأدعو له إلا أنَّ ذلك صدعاً بأمر الله تعالى الذي فَرَضَ النصيحة والعمل مِن أجل تغيير الواقع لاستبداله بواقعٍ يقوم على تطبيق أحكامه في السياسة والحكم والاقتصاد والنقد والأخلاق والعبادات.
انتهى