الاثنين، 29 ديسمبر 2008

كتاب التفكير - تقي الدين النبهاني - (كامل)

هذا الكتاب من الكتب التي أصدرها

حزب التحرير


تاليف: تقي الدين النبهاني
وهو من آخر الكتب التي كتبها مع كتاب سرعة البديهة


الطبعة الأولى

سنة 1393هـ ، 1973م.




بسم الله الرحمن الرحيم

التفكير



إن الإنسان هو أفضل المخلوقات على الإطلاق، حتى لقد قيل _وهو قول حق _إنه أفضل من الملائكة. والإنسان فضله إنما هو في عقله، فعقل الإنسان هو الذي رفع شأن هذا الإنسان وجعله أفضل المخلوقات، ولذلك لا بد من معرفة هذا العقل، وبالتالي لا بد من معرفة التفكير، ولا بد من معرفة طريقة التفكير، لأن هذا الواقع المسمى بالتفكير هو الذي يجعل للعقل قيمته، وهو الذي يعطي هذه الثمرات اليانعة، التي بها تصلح الحياة، ويصلح الإنسان، بل يصلح الكون كله بما فيه من كل شي حتى الجماد والنبات والحيوان.
إن العلوم والفنون، والأدب والفلسفة، والفقه واللغة، والمعرفة من حيث هي معرفة، إنما هي نتاج العقل وبالتالي نتاج التفكير. لذلك كان لزاما للإنسان وللحياة وللكون كله أن يدرك واقع العقل ما هو، وأن يدرك بالتالي واقع التفكير، وطريقة التفكير.

لقد قطعت الإنسانية هذه المسافة الطويلة من الحياة، ومن عمر الزمن وهي تعنى أكثر ما تعنى بنتاج العقل، وبنتاج التفكير دون أن تعني نفسها بواقع العقل وبواقع التفكير. صحيح أنه قد وجد من يحاول إدراك واقع العقل من علماء المسلمين، ومن علماء غير مسلمين في القديم والحديث ولكنهم أخفقوا في إدراك هذا الواقع. ووجد من يحاول رسم طريقة للتفكير، ولكنهم وقد نجحوا في نواحٍ من ثمرات هذه الطريقة بالمنجزات العلمية ولكنهم ضُلّلوا عن معرفة التفكير من حيث هو تفكير، وضللوا غيرهم من المقلدين الذين بهرهم هذا النجاح العلمي. ومن قبل، منذ أيام اليونان ومَن بعدهم، اندفعوا في الوصول إلى التفكير فوصلوا إلى ما يسمى بالمنطق، ونجحوا في الوصول إلى بعض الأفكار، ولكنهم أفسدوا المعرفة من حيث هي معرفة، فكان المنطق وبالاً على المعرفة بدل أن يكون _ كما أريد له _ سبيلاً للوصول إليها ومقياسا لصحتها. وأيضاً فإن هؤلاء الذين اندفعوا في الوصول إلى التفكير، قد وصلو أيضاً إلى ما يسمى بالفلسفة، أو ما يعرف بحب الحكمة، والتعمق فيما وراء الوجود، أي ما وراء المادة، فأوجدوا بحثاً لذيذ المعرفة لذيذ النتائج، ولكنه كان بعيداً عن الواقع، بعيداً عن الصدق، فكان أن أبعد عن الحقيقة وبعد عن الواقع، فضلل الكثيرين، وانحرف بالتفكير عن جادة الصواب.

فهذا كله وأمثاله إذا جاز أن نقول إنه بحث في التفكير، وبحث في طريقة التفكير، ولكنه _ رغم كونه أوجد معارف ، وأوجد مجالاً للبحث، وأوجد ما ينفع الإنسان _ لم يكن منصباً على واقع التفكير، ولم يكن سائراً في طريق الصواب، ولهذا لا يعتبر بحثاً في واقع التفكير، وإنما هو بحث في نتائجه وثمراته، ولم يكن طريقة مستقيمة للتفكير، وإنما هو أسلوب من أساليب هذه الطريقة، جاء صدفة من جراء البحث في نتاج العقل، أو في الثمرات، ولم يأت عن طريق البحث في واقع التفكير. ولذلك يمكن أن يقال إن البحث في طريقة مستقيمة للتفكير، لا يزال مجرد محأولاًت تجري حول نتاج التفكير لا حول واقع التفكير نفسه.
أما سبب عدم الاهتداء حتى الآن إلى واقع التفكير، بالتالي إلى طريقة التفكير، فإنه راجع إلى أن الباحثين قد بحثوا في التفكير قبل أن يبحثوا في العقل، ولا يمكن الاهتداء إلى واقع التفكير، إلا بعد معرفة واقع العقل معرفة يقينية بشكل جازم، لأن التفكير هو ثمرة العقل، والعلوم والفنون وسائر صنوف الثقافة، إنما هي ثمرة التفكير. لذلك فإنه لا بد من معرفة واقع العقل أولاً معرفة يقينية بشكل جازم، ثم بعد ذلك يمكن معرفة واقع التفكير، ويمكن معرفة طريقة مستقيمة للتفكير، ثم بعد ذلك، وعلى ضوئه، يمكن الحكم على المعرفة هل هي علم أم لا، أي يمكن إدراك أن الكيمياء علم، وأن ما يسمى بعلم النفس وعلوم الاجتماع ليست علماً، ويمكن الحكم على المعرفة هل هي ثقافة أم لا، أي يمكن إدراك أن التشريع ثقافة. وأن التصوير ليس ثقافة. فالمسألة كلها مبنية على أساس معرفة واقع العقل معرفة يقينية جازمة، ثم بعد ذلك، وعلى ضوء هذه المعرفة، يبحث واقع التفكير، وبالتالي طريقة التفكير، وعلى ضوئها يمكن الوصول بشكل صحيح إلى أسلوب التفكير، أو إلى أساليب التفكير.
هذه هي المسألة، فالوصول إلى العلم والثقافة، يجب أن يكون نتيجة لمعرفة واقع التفكير، وطريقة التفكير وأسلوبه، والوصول إلى واقع التفكير، يجب أن يكون نتيجة لمعرفة واقع العقل. وعلى ذلك لا بد من معرفة واقع العقل معرفةيقينية جازمة ثم معرفة واقع التفكير.
إن الذين عرفوا العقل ما هو، أي حاولوا معرفة واقع العقل، كثيرون، سواء أكان ذلك في القديم من فلاسفة اليونان، أو من علماء المسلمين، أو علماء الغرب، أو كان ذلك في العصر الحديث. ولكن هذه التعاريف، أو بعبارة أخرى هذه المحأولاًت، لا يوجد فيها ما يستحق الذكر، ولا ما يرتفع إلى مستوى النظر، سوى محاولة علماء الشيوعية، فإن تعريفهم وحده هو الذي يمكن أن يستحق الذكر، ويمكن أن يرتفع إلى مستوى النظر، لأنها محاولة جدية، لم يفسدها عليهم إلا إصرارهم الخاطىء على إنكار أن لهذا الوجود خالقاً، ولولا هذا الإصرار على إنكار أن للوجود خالقاً، لتوصلوا إلى إدراك واقع العقل إدراكاً حقيقياً، أي لتوصلوا إلى معرفة واقع العقل معرفة يقينية جازمة. فهم بدأوا البحث في الواقع والفكر فقالوا: هل الفكر وجد قبل الواقع ؟ أم أن الواقع وجد قبل الفكر، وكان الفكر نتيجة للواقع ؟ وقد اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال إن الفكر وجد قبل الواقع، ومنهم من قال إن الواقع وجد قبل الفكر. واستقر رأيهم النهائي على أن الواقع وجد قبل الفكر. وبناء على هذا، أو من جراء هذا وصلوا إلى تعريف الفكر، فقالوا: إن الفكر هو انعكاس الواقع على الدماغ. فتكون معرفتهم لواقع الفكر هو أنه واقع، ودماغ، وعملية انعكاس لهذا الواقع على الدماغ. فالفكر هو نتيجة لانعكاس الواقع على الدماغ. هذا هو رأيهم، وهو رأي يدل على بحث صحيح، ويدل على محاولة جادة وعلى قرب من الحقيقة. ولولا إصرارهم على إنكار أن لهذا الواقع خالقاً خلقه وإصرارهم على أن الوجود أزلي، لما حصل الخطأ في إدراك واقع العقل. لأنه صحيح أن لا فكر بلا واقع، وأن كل معرفة دون واقع إنما هي خيال أو تخريف. فالواقع هو أساس الفكر، والفكر إنما هو تعبير عن واقع، أو حكم على ذلك الواقع. فالواقع هو أساس الفكر، وهو أساس التفكير وبدون وجود الواقع، لا يمكن أن يوجد فكر ولا تفكير. ثم إن الحكم على الواقع، بل إن كل ما في الإنسان وما ينتج عنه إنما هو مرتبط بالدماغ، فالدماغ هو المركز الرئيسي والأساسي في الإنسان، لذلك لا يمكن أن يوجد فكر إلا بعد وجود الدماغ، والدماغ نفسه واقع، ولهذا فإن وجود الدماغ شرط أساسي لوجود الفكر، كما أن وجود الواقع شرط أساسي لوجود الفكر. ولهذا، فإنه لوجود العقل، أي لوجود التفكير، أو الفكر، لا بد أن يكون هناك واقع، وهناك دماغ. وعلماء الشيوعية اهتدوا إلى هذين الشيئين أي اهتدوا إلى أنه لوجود العقل لا بد من أن يكون هناك واقع، وهناك دماغ، وأن وجودهما معاً شرط رئيسي وأساسي لوجود الفكر، أي لوجود العقل. ولذلك كانت محاولتهم جادة، وصحيحة، وإلى هنا كانوا يسيرون في الطريق المستقيم الموصل إلى معرفة واقع العقل معرفة يقينية جازمة. إلا إنهم حين حاولوا ربط الواقع بالدماغ للوصول إلى الفكر، أي لإيجاد التفكير، ضلوا الطريق، فجعلوا الرابط بينهما هو انعكاس هذا الواقع على الدماغ. فخرجوا بالنتيجة الخطأ في معرفة العقل، ولذلك عرفوا العقل تعريفاً خاطئاً. وسبب ذلك هو إصرارهم على إنكار أن للوجود خالقاً خلقه من عدم. لأنهم لو قالوا إن المعرفة تسبق الفكر، فإنهم يقفون أمام حقيقة واقعة، وهي أنه من أين جاء الفكر قبل وجود الواقع، فلا بد أن يكون قدجاء من غير الواقع. وبالتالي من أين جاء الفكر للإنسان الأول؟ لا بد أنه جاءه من غيره، ومن غير الواقع، فيكون الإنسان الأول، والواقع قد أوجدهما من أعطى الإنسان الأول المعرفة، وهذا خلاف ما لديهم من معرفة جازمة بأن العالم أزلي وأن الواقع أزلي. ولذلك قالوا إن انعكاس الواقع على الدماغ هو العقل، فهو الذي أوجد الفكر، وهو الذي وجد به التفكير. ومن أجل أن يتهربوا من ضرورة وجود المعرفة، صاروا يحاولون إيجاد تخيلات، وإيجاد فروض، من أن الإنسان الأول قد جرب الواقع فوصل إلى المعرفة ثم كانت هذه التجارب للواقع معارف تساعده على تجارب أخرى للواقع، وهكذا. وأصروا على أن الواقع وانعكاس الدماغ عليه، هو العقل، وهو الفكر، وهو الذي يوجد التفكير. وقد عمي بصرهم عن الفرق بين الإحساس والانعكاس، وأن عملية التفكير لم تأت من انعكاس الواقع على الدماغ، ولا من انطباع الواقع على الدماغ، وإنما جاءت من الإحساس، والإحساس مركزه الدماغ، ولولا الحس بالواقع، لما حصل أي فكر، ولما وجد أي تفكير. فعدم تفريقهم بين الإحساس والانعكاس، زاد الطين بلة لديهم، وصرفهم عن الطريق الذي كانوا يسيرون فيه. فكان ما كان من تعريفهم للعقل، ومن الخطأ في هذا التعريف. ولكن أساس الخطأ لم يكن من عدم التفريق بين الإحساس والانعكاس، والا لكانوا اهتدوا إلى أن المسألة هي إحساس وليست انعكاساً. بل أساس الخطأ، وأساس الانحراف، ناتج عن إنكارهم أن لهذا الوجود خالقاً، فلم يدركوا أن وجود معلومات سابقة عن هذا الواقع شرط ضروري لوجود الفكر، أي شرط ضروري لوجود التفكير، وبالتالي شرط ضروري لتكوين العقل، أي ليكون هناك عقل، أي هناك فكر، وتفكير. وإلا لكان لدى الحمار عقل، لأنه يملك الدماغ، وينعكس الواقع على دماغه، أي يحس بالواقع. والعقل هو من خواص الإنسان وقد قيل قديماً: أن الإنسان حيوان ناطق، أي حيوان مفكر، لأن التفكير أو العقل خاص به، وليس لدى غيره من حيوان وسواه عقل ولا تفكير.
ومهما يكن من أمر فإن علماء الشيوعية هم وحدهم الذين قاموا بمحاولة جادة للوصول إلى معنى العقل، وساروا في طريق مستقيم نحو معرفة واقع العقل وهم وإن أخطأوا في تعريف العقل، وانحرفوا عن الطريق الذي كانوا يسيرون به نحو الوصول إلى هذه المعرفة معرفة يقينية جازمة، ولكنهم فتحوا الطريق لمن يأتي بعدهم ويسير فيه حتى يصل إلى هذه المعرفة اليقينية الجازمة. إنه مع كون المسلمين يوجد لديهم ما يدل على أن وجود معلومات سابقة عن الشي أمر لا بد منه لمعرفة الشيء، ولكن هذا وإن كان صحيحاً، فإنه باعتباره وصف واقع، وباعتبار أن المراد منه إلزام الناس جميعاً بتعريف العقل، لذلك لا بد من أن يكون تعريف العقل مبنياً على المشاهد المحسوس، لأنه يراد به إلزام الناس جميعاً لا إلزام المسلمين منهم فحسب.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز "وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" فهذه الآية تدل على أن المعلومات السابقة لا بد منها للوصول إلى المعرفة، أي معرفة، فآدم قد علمه الله أسماء الأشياء أو مسمياتها فلما عرضت عليه عرفها. فالإنسان الأول، وهو آدم، قد أعطاه الله معلومات، ولذلك عرف الأشياء، ولولا هذه المعلومات لما عرفها. وبما أن أساس الانحراف في الطريق الذي سلكه علماء الشيوعية للوصول إلى معرفة واقع العقل هو ضرورة وجود المعلومات السابقة، فإن هذا يكفي لبيان خطأ الشيوعيين في تعريف العقل، ويكفي لبيان وجه الانحراف، وأنه حتى يتوصل لإيجاد الفكر لا بد من المعلومات السابقة عن الواقع الذي يعرض على الدماغ. إلا إنه لما كان المراد هو إلزام الناس جميعاً وليس المسلمين فحسب، كان لا بد من عرض المشاهد المحسوس بأنه لا بد من وجود معلومات سابقة عن الواقع حتى يتأتى إيجاد الفكر، أي حتى يتكون العقل ويوجد. لأن العقل متركز وجوده على وجود المعلومات السابقة لدى الدماغ وإن كان الواقع شرطاً ضرورياً لوجود العملية العقلية، أي لوجود الفكر أوالتفكير.

فسلوك الطريق المستقيم الذي سلكه الشيوعيون ثم انحرفوا لا يكفي فيه لمعرفة وجه الانحراف إدراك أن الذي حصل هو إحساس الدماغ بالواقع وليس الانعكاس، لأن هذا سهل، وهو ليس أساس الانحراف، وإنما الأساس هو وجود معلومات سابقة عن الواقع، حتى يتأتى إيجاد العملية العقلية، أي حتى يتأتى أن يكون هناك عقل، وقد جرى إدراك أن الذي حصل هو إحساس الدماغ بالواقع وليس انعكاس الواقع على الدماغ، وحصل قبل ذلك وبعد ذلك من فهم الآية الكريمة، ثم من عرض المشاهد المحسوس، إدراك أن المعلومات السابقة عن الواقع، أو عما يتعلق به أمر لا بد منه للعقل، أي للإدراك، وبمعنى آخر لوجود العقل، ودون هذه المعلومات لا يمكن أن يوجد عقل أو إدراك، أي لا يمكن أن يوجد واقع للعقل، فحصل التوصل إلى إدراك معنى العقل، ثم كان تعريف العقل هذا التعريف الصحيح، بشكل يقيني جازم.

أما إدراك أن الذي حصل في عملية التفكير، أي العملية العقلية هو إحساس وليس انعكاساً، فهو أنه لا يوجد انعكاس بين المادة والدماغ، فلا الدماغ ينعكس على المادة، ولا المادة تنعكس على الدماغ. لأن الانعكاس يحتاج إلى وجود قابلية الانعكاس في الشيء الذي يعكس الأشياء كالمرآة، وكالضوء، فإنها تحتاج إلى قابلية الانعكاس عليها، وهذا غير موجود، لا في الدماغ، ولا في الواقع المادي. ولذلك لا يوجد انعكاس بين المادة والدماغ مطلقاً، لأن المادة لا تنعكس على الدماغ، ولا تنتقل إليه. بل الذي ينتقل هو الإحساس بالمادة إلى الدماغ بواسطة الحواس. أي أن الحواس هي التي تحس المادة، بأية حاسة من الحواس، فينقل هذا الحس إلى الدماغ فيصدر حكمه عليه. ونقل الإحساس بالمادة إلى الدماغ ليس انعكاساً للمادة على الدماغ، ولا انعكاساً للدماغ على المادة، وإنما هو حس بالمادة، ولا فرق في ذلك بين العين وغيرها من الحواس، فيحصل من اللمس، والشم، والذوق، والسمع، إحساس كما يحصل من الإبصار. اذن فالذي يحصل من الأشياء ليس انعكاساً على الدماغ، وإنما هو حس بالأشياء. فالإنسان يحس بالأشياء بواسطة حواسه الخمس، ولا تعكس على دماغه الأشياء.

وهذا ظاهر ظهور الشمس في الأشياء المادية، فالحس هو الذي يحصل. أما الأمور غير المادية من أمور معنوية أو روحية، فإنها كذلك يحصل إحساس بها حتى تتكون العملية العقلية بشأنها. فالمجتمع المنحط لا بد من الإحساس بالانحطاط حتى يحصل الحكم عليه بأنه منحط، وهذا أمر مادي. وما يجرح الكرأمة لا بد من الإحساس بالجرح الذي حصل، أو الحس بأن هذا الشيء أو الفعل يجرح الكرأمة، حتى يحصل الحكم بأنه قد حصل جرح، أو أن الشيء له شفرة تجرح الكرأمة، وهذا أمر معنوي. وما يغضب الله لا بد من الإحساس بغضب الله الذي حصل، أو الحس بأن هذا الفعل أو الشيء يستفز رب العزة، أي فيه نار الاستفزاز وجمرة الغضب للذات العلية، وهذا أمر روحي. وبدون وجود ذلك الحس لا يمكن أن تحصل العملية العقلية. فالحس أمر ضروري حتى تحصل العملية العقلية، سواء في الأشياء المادية أو الأمور غير المادية. إلا أن الأشياء المادية يحصل الحس بها طبيعياً وإن كان يقوى ويضعف حسب فهم طبيعتها، ولذلك قالوا: إن الإحساس الفكري أقوى أنواع الإحساس، أما الأمور غير المادية فإنه لا يحصل الحس بها إلا بوجود فهم لها أو عن طريق التقليد.
وعلى أي حال فإن موضوع كون الذي يحصل هو إحساس وليس انعكاساً هو أمر يكاد يكون من البديهيات، وإن كان في الأشياء المادية أوضح منه في الأمور المعنوية، ولكنه ليس أساسياً، فإنه ملموس من كل إنسان، ولا يوجد فيه خلاف، سوى أن التعبير عنه قد يكون خلاف الواقع كما عبروا عنه بالانعكاس، وقد يكون هو الواقع كما عبرنا عنه بالإحساس أو الحس. ولكن الذي كان أساس الانحراف إنما هو المعلومات السابقة عن الواقع، فإنها هي التي جعلت انحراف علماء الشيوعية فظيعاً، وهي بيت القصيد في موضوع العقل، أو هي العمل الأساسي في العملية العقلية.

وخلاصة موضوع المعلومات السابقة هو: أن الحس وحده لا يحصل منه فكر، بل الذي يحصل هو الحس فقط، أي الإحساس بالواقع. وإحساس زائد إحساساً وزائد مليون إحساس مهما تعدد نوع الإحساس، إنما يحصل منه إحساس فقط، ولا يحصل فكر مطلقاً. بل لا بد من وجود معلومات سابقة عند الإنسان يفسر بواسطتها الواقع الذي أحس به حتى يحصل فكر. ولنأخذ الإنسان الحالي، أيّ إنسان، ونعطيه كتاباً سريانياً، ولا توجد لديه أية معلومات تتصل بالسريانية ونجعل حسه يقع على الكتابة، بالرؤية، واللمس، ونكرر هذا الحس مليون مرة، فإنه لا يمكن أن يعرف كلمة واحدة حتى تعطى له معلومات عن السريانية، وعما يتصل بالسريانية، فحينئذ يبدأ يفكر بها ويدركها. ولا يقال هذا خاص باللغات، وإنها وضعية من وضع الإنسان، فتحتاج إلى معلومات عنها، لا يقال ذلك، لأن الموضوع هو عملية عقلية، والعملية عملية عقل، سواء في وضع الحكم، أو في فهم الدلالة، أو في فهم الحقيقة. فالعملية العقلية عملية واحدة في كل شيء، فالتفكير في مسألة هو كالتفكير في بصلة. وفهم معنى كلمة هو كفهم معنى واقع، كل منها يحتاج إلى عملية عقلية والعملية العقلية واحدة في كل شيء وفي كل أمر وفي كل واقع.
ومن أجل أن لا نثير جدلاً في اللغة والواقع فلنأخذ الواقع مباشرة. لنأخذ الطفل الذي وجد عنده الإحساس ولم توجد عنده معلومات، ولنضع أمامه قطعة ذهب، وقطعة نحاس، وحجراً، ونجعل جميع إحساساته تشترك في حس هذه الأشياء فإنه لا يمكنه أن يدركها، مهما تكررت هذه الإحساسات وتنوعت. ولكن إذا أعطي معلومات عنها وأحسها فإنه يستعمل المعلومات ويدركها. وهذا الطفل لو كبرت سنه وبلغ عشرين سنة، ولم يأخذ أية معلومات، فإنه يبقى كأول يوم يحس بالأشياء فقط، ولا يدركها مهما كبر دماغه، لأن الذي يجعله يدرك ليس الدماغ، وإنما هو المعلومات السابقة مع الدماغ ومع الواقع الذي يحسه. وأيضاً لنأخذ طفلاً عمره أربع سنوات، لم ير الاسد ولم يسمع به، ولم ير الميزان، ولم يسمع به، ولم ير الكلب ولم يسمع به، ولم ير الفيل ولم يسمع به. وعرضنا عليه أسداً وميزاناً وكلباً وفيلاً، أو عرضنا عليه صورة أسد وصورة ميزان وصورة كلب وصورة فيل، ثم طلبنا منه أن يعرف أي واحد منها، أو يعرف اسمه، وما هو هذا الشيء، فإنه لا يعرف شيئاً، ولا يمكن أن توجد لديه أية عملية عقلية تجاه أي منها. ولو حفظناه أسماءها غيباً، بعيداً عنها دون أن تقترن بأي منها، ثم عرضنا عليه هذه الأشياء وقلنا هذه أسماؤها، أيّ الأسماء التي حفظتها هي أسماء هذه الأشياء؟ فإنه لا يمكن أن يعرف اسم أي منها. ولكن إذا أعطيناه اسم كل منها تجاه واقعه، أو تجاه صورة الواقع، وربطناه بها، حتى حفظ الأسماء مربوطاً كل اسم منها بواقعه، فإنه حينئذ يدرك كل شيء باسمه، أي يدرك ما هو هذا الشيء هل هو أسد ام ميزان، ولا يخطىء. وأن حاولت مغالطته لا ينساق معك. بل يصر على أن هذا أسد عن نفس الأسد وصورته. وهذا ميزان عن نفس الميزان وصورته، وهكذا. فالموضوع إذن ليس متعلقاً بالواقع ولا بالحس به، وإنما هو متعلق بالمعلومات السابقة عن هذا الواقع، أي المعلومات المرتبطة بالواقع حسب علمه أو المتعلقة بالواقع حسب علمه هو.

فالمعلومات السابقة عن الواقع، أو المتعلقة بذلك الواقع، شرط أساسي ورئيسي لأن تحصل العملية العقلية، أي شرط أساسي ورئيسي للعقل.
هذا من ناحية الإدراك العقلي. أما من ناحية الإدراك الشعوري، فناتج عن الغرائز والحاجات العضوية والذي يحصل عند الحيوان فإنه يحصل عند الإنسان، فيعرف من تكرار إعطائه التفاحة والحجر أن التفاحة تؤكل والحجر لا يؤكل، كما يعرف الحمار أن الشعير يؤكل وأن التراب لا يؤكل. ولكن هذا التمييز ليس فكراً ولا إدراكاً، وإنما هو راجع للغرائز والحاجات العضوية، وهو موجود عند الحيوان كما هو عند الإنسان، ولذلك لا يمكن أن يحصل فكر، إلا إذا وجدت المعلومات السابقة مع نقل الإحساس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ.

إن ما يشتبه على الكثيرين هو أن المعلومات السابقة قد تحصل من تجارب الشخص نفسه، وقد تحصل من التلقي. فعندهم أن التجارب نفسها قد أوجدت معلومات، فتكون التجارب الأولى هي التي أوجدت العملية العقلية. وهذا الاشتباه يزال بمجرد لفت النظر إلى ما بين دماغ الإنسان ودماغ الحيوان من فرق من حيث الربط، وبمجرد لفت النظر إلى ما بين ما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية وما يتعلق بالحكم على الأشياء ما هي. أما الفرق بين دماغ الحيوان ودماغ الإنسان فإن دماغ الحيوان لا يوجد فيه ربط للمعلومات وإنما يوجد فيه استرجاع الإحساس ولا سيما إذا تكرر، وهذا الاسترجاع _ من حيث قيام الحيوان بالفعل طبيعياً _ خاص بما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية ولا يتعداه لغيرها. فأنت إذا ضربت الجرس وأطعمت الكلب عند ضرب الجرس، فإنه إذا تكرر ذلك يفهم الكلب إذا قرع الجرس أن الأكل آت ولذلك يسيل لعابه. وكذلك إذا رآى الحمار حمارة تتحرك فيه الشهوة، ولكنه إذا رآى كلبة لا تتحرك، وأيضاً فإن البقر وهي ترعى تتجنب العشب السام، والعشب الذي يضرها. وكل هذا وأمثاله إنما هو تمييز غريزي. أما ما يشاهد من تعلم بعض الحيوانات حركات أو أعمالاً تقوم بها وهي لا تتعلق بالغريزة، فهي إنما تقوم بذلك تقليداً ومحاكاة وليس عن عقل وإدراك. فدماغ الحيوان لا توجد فيه خاصية ربط المعلومات وإنما عنده تذكر الإحساس والتمييز الغريزي. فكل ما يتعلق بالغريزة يحسه، وكل ما يحسه يستطيع استرجاع إحساسه لا سيما إذا تكرر هذا الإحساس. فما يتعلق بالغريزة يقوم الحيوان به طبيعياً سواء أحسه أو استرجع إحساسه به. أما ما لا يتعلق بالغريزة فلا يمكن أن يقوم به طبيعياً إذا أحسه، ولكن إذا تكرر هذا الإحساس واسترجعه فإنه يمكن أن يقوم به تقليداً ومحاكاة وليس قياماً طبيعياً.

وهذا بخلاف الإنسان فإن دماغه توجد فيه خاصية ربط المعلومات وليس مجرد استرجاع الإحساس فقط. فالشخص يرى رجلاً في بغداد، ثم بعد عشر سنين يراه في دمشق فيسترجع إحساسه به، ولكنه لعدم وجود معلومات عنه لا يربط به أي شيء، بخلاف ما لو رآى هذا الرجل في بغداد، وأخذ معلومات عنه، فإنه يربط حضوره لدمشق بالمعلومات السابقة عنه، ويدرك معنى حضوره لدمشق. بخلاف الحيوان فإنه لو استرجع الإحساس بذلك الرجل لا يدرك معنى حضوره، وإنما يحس بما يتعلق بالغرائز لديه عند رؤية ذلك الرجل. فالحيوان يسترجع الإحساس ولكنه لا يربط المعلومات ولو أعطيت إليه بالتعليم والمحاكاة. بخلاف الإنسان فإنه يسترجع الإحساس، ويربط المعلومات. فدماغ الإنسان فيه خاصية الربط واسترجاع الإحساس، ولكن الحيوان لا توجد لديه خاصية الربط، وإنما يوجد لديه فقط استرجاع الإحساس.

وأما الفرق بين ما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية وما يتعلق بالحكم على الأشياء ما هي. فهو أن ما يتعلق بالغرائز يمكن للإنسان بتكرار الإحساس أن يسترجع الإحساس، ويمكنه بخاصية الربط أن يكون من مجموع ما يحسه وما يسترجعه من إحساسات، معلومات، وأن يسترجع هذه الإحساسات بمعلومات فيما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية، ولكنه لا يمكن أن يربط هذه المعلومات في غير ما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية، أي لا يمكنه أن يربطها في الحكم على الشيء ما هو. ولذلك اشتبه على الكثيرين التفريق بين عملية الاسترجاع وبين عملية الربط، فعملية الاسترجاع لا تكون إلا فيما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية، ولكن عملية الربط تكون في كل شيء، سواء ما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية أو ما يتعلق بالحكم على الأشياء ما هي. فالمعلومات السابقة لا بد منها في الربط، وميزة الإنسان على الحيوان إنما هي في خاصية الربط. ولذلك فإن كون الإنسان يعرف من عوم الخشبة أنه يمكن أن يجعل من الخشب سفينة، هي مثل كون القرد يعرف أن إسقاط الموزة من قطف موز معلق يمكن أن يحصل من ضرب قطف الموز المعلق بعصا أو أي شيء. فكله متعلق بالغرائز والحاجات العضوية، وحصوله حتى لو ربط وجعل معلومات هو عملية استرجاع وليس عملية ربط، ولذلك لا يكون عملية عقلية، ولا يدل على أن هناك عقلاً أو فكراً. بل الذي يدل على أن هناك عقلاً أو فكراً ويكون عملية عقلية حقاً، إنما هو الحكم على الأشياء ما هي، لا يتم إلا بعملية ربط وربط بمعلومات سابقة. ومن هنا كان لا بد من وجود معلومات سابقة لأية عملية ربط حتى يوجد العقل أو الفكر، أي حتى تكون العملية العقلية.

وكثيرون من الناس يحاولون الإتيان بالإنسان الأول كيف اهتدى من تجاربه وتكوين معلومات من هذه التجارب إلى الفكر وإلى التفكير، ليصلوا من ذلك إلى أن الواقع نفسه بانعكاس الدماغ عليه، أو بإحساس الإنسان به قد جعل الإنسان يفكر وأوجد لديه عملية عقلية، أي أوجد عنده فكراً أي تفكيراً. وبالرغم من أن ما قدمناه من أن هذا استرجاع وليس ربطاً، وأنه خاص بالغرائز ولا يمكن أن ينطبق على الحكم على الأشياء ما هي، كافٍ لنقضه والرد عليه. ولكن الموضوع ليس بحثاً في الإنسان الأول، ولا هو متعلق بفروض وتخمينات وتصوراًت، وإنما هو متعلق بالإنسان من حيث هو إنسان، فبدل أن نأخذ الإنسان الأول ونقيس عليه الإنسان الحالي، فنقيس الشاهد على الغائب، وإنما يجب أن نأخذ الإنسان الحالي، الذي أمامنا، نشاهده ونحس به، ونقيس الغائب على الشاهد. وما ينطبق على الإنسان الحالي بالحس والمشاهدة ينطبق على كل إنسان حتى الإنسان الأول ولذلك لا يصح أن نعكس البرهان، بل يجب أن نسوقه على وجهه الصحيح. فالإنسان الحالي أمامنا نشاهده ونحس به، فلنقم بالعملية العقلية فيه، فيما يتعلق بالغرائز وما يتعلق بالحكم على الأشياء ما هي، ثم نرى الاسترجاع، والربط، والفرق بينهما. فنشاهد أن المعلومات السابقة لا بد منها في الربط عند الإنسان، فلا بد منها في العملية العقلية. بخلاف استرجاع الإحساس، فإنه موجود عند الإنسان وعند الحيوان وهو لا يشكل عملية عقلية وليس هو عقلاً ولا فكراً ولا تفكيراً. والطفل الصغير الذي لا يعرف الأشياء وليست لديه معلومات، والذي يمكن أن يأخد المعلومات، هو البرهان الصادق على معنى العقل.

وعلى ذلك فإن العقل غير موجود إلا عند الإنسان وإن العملية العقلية لا يمكن لا يمكن أن يقوم بها إلا الإنسان. إأن الغرائز والحاجات العضوية موجودة عند الإنسان وعند الحيوان، وأن إحساساتها موجودة عند الإنسان وعند الحيوان، وإن استرجاع هذه الإحساسات موجود عند الإنسان وعند الحيوان. ولكن ذلك كله ليس عقلاً ولا إدراكاً ولا فكراً ولا تفكيراً، وإنما هو تمييز غريزي ليس غير. أما العقل فإنه يحتاج إلى دماغ فيه خاصية ربط المعلومات، وهذا ليس موجوداً إلا عند الإنسان. وعليه فإن العملية العقلية لا يمكن أن تحصل إلا بوجود خاصية الربط، وخاصية الربط إنما تربط المعلومات بالواقع ولذلك لا بد لأية عملية عقلية، سواء عند الإنسان الأول أو عند الإنسان الحالي من وجود معلومات سابقة عن الواقع وموجودة قبل وجود هذا الواقع أمام الشخص الذي يريد أن يعقله. ومن هنا كان لا بد أن تكون عند الإنسان الأول معلومات سابقة عن الواقع، من قبل أن يعرض عليه الواقع. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن آدم، الإنسان الأول: " وعلم آدم الأسماء كلها " ثم قال له: " يا آدم أنبئهم بأسمائهم" فالمعلومات السابقة شرط أساسي ورئيسي للعملية العقلية. أي لمعنى العقل.

فعلماء الشيوعية ساروا في إدراك معنى العقل، فأدركوا أنه لا بد من وجود واقع حتى تتم العملية العقلية، وأدركوا انه لا بد من وجود دماغ إنسان حتى توجد العملية العقلية، وبذلك ساروا في الطريق المستقيم، ولكنهم أخطأوا التعبير في ربط الدماغ بالواقع وعبروا عنه بالانعكاس وليس بالإحساس ولكنهم انحرفوا كلياً حين أنكروا ضرورة وجود المعلومات السابقة حتى تتم العملية العقلية وبدون هذه المعلومات السابقة لا يمكن أن تتم ولا بوجه من الوجوه. وعلى ذلك فإن الطريق المستقيم الذي يؤدي إلى معرفة معنى العقل معرفة يقينية جازمة هو أنه لا بد من وجود أربعة أشياء حتى تتم العملية العقلية، أي حتى يوجد العقل أو الفكر. فلا بد من وجود واقع. ولا بد من وجود دماغ صالح، ولا بد من وجود حس، ولا بد من وجود معلومات سابقة. فهذه الأربعة مجتمعة لا بد من تحققها جميعها وتحقق اجتماعها، حتى تتم العملية العقلية، أي حتى يوجد عقل أو فكر أو إدراك.

وعليه فالعقل أو الفكر أو الإدراك هو: نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ، ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها هذا الواقع.

هذا وحده هو التعريف الصحيح، ولا تعريف غيره مطلقاً، وهذا التعريف مُلزِم لجميع الناس في جميع العصور، لأنه وحده الوصف الصادق لواقع العقل، وهو وحده الذي ينطبق على واقع العقل.

وإذا عرفنا معنى العقل معرفة يقينية جازمة، وعرفنا تعريف العقل بشكل يقيني جازم، صار لزاماً علينا أن نعرف الطريقة التي يعمل فيها العقل في الوصول إلى الأفكار، أي نعرف الكيفية التي يجري بحسبها إنتاج العقل للأفكار. وهذا هو طريقة التفكير. فهناك أسلوب للتفكير، وهناك طريقة للتفكير، أما أسلوب التفكير فهو الكيفية التي يقتضيها بحث الشيء، سواء أكان شيئاً مادياً ملموساً، أو شيئاً غير مادي، أو الوسائل التي يقتضيها بحث الشيء. ولذلك تتعدد الأساليب وتتغير وتختلف حسب نوع الشيء، وتغيره، واختلافه. أما الطريقة فهي الكيفية التي تجري عليها العملية العقلية أي عملية التفكير حسب طبيعتها وحسب واقعها. ولهذا فإن الطريقة لا تتغير وإنما تظل هي هي، وبالطبع لا تتعدد ولا تختلف، ومن هنا كان لا بد أن تكون دائمة، وكان لا بد أن تكون هي الأساس في التفكير مهما تعددت أساليب التفكير.

وطريقة التفكير، أي الكيفية التي يجري بحسبها إنتاج العقل للأفكار، مهما كانت هذه الأفكار، هي نفسها تعريف العقل، أي هي ما ينطبق على واقع العقل، ولا تخرج عنه بحال من الأحوال. ولذلك سميت الطريقة العقلية نسبة إلى العقل نفسه. وتعريف هذه الطريقة هو أنها –أي الطريقة العقلية- هي منهج معين في البحث، يُسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يبحث عنه، عن طريق نقل الحس بالواقع، بواسطة الحواس، إلى الدماغ، ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع، فيصدر الدماغ حكمه عليه. وهذا الحكم هو الفكر، أو الإدراك العقلي. وتكون في بحث المواد المحسوسة، كالفيزياء، وفي بحث الأفكار، كبحث العقائد وبحث التشريع، وفي فهم الكلام، كبحث الأدب وبحث الفقه. وهذه الطريقة هي الطريقة الطبيعية في الوصول إلى الإدراك من حيث هو، وعمليتها هي التي يتكون بها عقل الأشياء أي إدراكها، وهي نفسها تعريف للعقل، وعلى منهجها يصل الإنسان من حيث هو إنسان إلى إدراك أي شيء سبق أن أدركه، أو يريد إدراكه.

هذه هي الطريقة العقلية، وهي وحدها طريقة التفكير، وما عداها مما يسمى طرق التفكير، كالطريقة العلمية، والطريقة المنطقية، إنْ هي إلا فرع لهذه الطريقة كالطريقة العلمية، أو أسلوب من أساليبها اقتضاها بحث الشيء، أو وسائل بحثه كما يسمى بالطريقة المنطقية، وليست طرقاً أساسية للتفكير، فطريقة التفكير واحدة لا تتعدد وهي الطريقة العقلية ليس غير.

إلا إنه يجب أن يفرق في تعريفها بين الآراء السابقة عن الشيء، وبين المعلومات السابقة عنه أو ما يتعلق به، فالمحتم في الطريقة العقلية ليس وجود رأي أو آراء سابقة عن الواقع، بل وجود معلومات سابقة عنه أو متعلقة به. ولذلك فإن المحتم الوجود هو المعلومات وليس الرأي. أما الرأي السابق عن الواقع، أو الآراء السابقة عنه، فلا يصح أن تكون موجودة، أي لا يصح أن تستعمل في العملية الفكرية، فالذي يستعمل هو المعلومات فقط مع الحيلولة دون وجود الرأي عند العملية ودون تدخله. فإن الرأي السابق إذا استعمل قد يسبب الخطأ في الإدراك، لأنه قد يتسلط على المعلومات فيفسرها تفسيراً خاطئاً فيقع الخطأ في الإدراك، ولذلك لا بد أن يلاحظ التفريق بين الرأي السابق وبين المعلومات، وأن تستعمل المعلومات فقط ويستبعد الرأي.

وإذا استعملت الطريقة العقلية على وجهها الصحيح من نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة –لا آراء سابقة- يفسر بواسطتها أي بواسطة المعلومات مع استبعاد الآراء، يفسّر الواقع، وحينئذ يصدر الدماغ حكمه على هذا الواقع، إذا استعملت هذه الطريقة على وجهها الصحيح فإنها تعطي نتائج صحيحة، إلا أن النتيجة التي يصل إليها الباحث على الطريقة العقلية ينظر فيها، فإن كانت هذه النتيجة هي الحكم على وجود الشيء فهي قطعية لا يمكن أن يتسرب الخطأ إليها مطلقاً ولا بحال من الأحوال، وذلك لأن هذا الحكم جاء عن طريق الإحساس بالواقع، والحس لا يمكن أن يخطئ بوجود الواقع. إذ إن إحساس الحواس بوجود الواقع قطعي، فالحكم الذي يصدره العقل عن وجود الواقع في هذه الطريقة قطعي. أما إن كانت النتيجة هي الحكم على حقيقة الشيء أو صفته فإنها تكون نتيجة ظنية، فيها قابلية الخطأ. لأن هذا الحكم جاء عن طريق المعلومات، أو تحليلات الواقع المحسوس مع المعلومات، وهذه يمكن أن يتسرب إليها الخطأ، ولكن تبقى فكراً صائباً حتى يتبين خطؤها، وحينئذ فقط، يُحكم عليها بالخطأ، وقبل ذلك تبقى نتيجة صائبة وفكراً صحيحاً. ولهذا فإن الأفكار التي يتوصل إليها العقل بطريقة التفكير العقلية، إن كانت مما يتعلق بوجود الشيء كالعقائد فإنها أفكار قطعية، وإن كانت مما يتعلق بالحكم على حقيقة الشيء أو صفته كالأحكام الشرعية فإنها أفكار ظنية، أي غلب على الظن أن الشيء الفلاني حكمه كذا، والأمر الفلاني حكمه كذا. فهي صواب يحتمل الخطأ، ولكنه يبقى صواباً حتى يتبين خطؤه.

والطريقة العقلية سواء عرفت تعريفاً صحيحاً أم لم تعرّف هي الطريقة التي يجري عليها الإنسان من حيث هو إنسان في تفكيره وحكمه على الأشياء وإدراكه لحقيقتها وصفاتها. ولكن الغرب، نعني أروبا ثم أمريكا ولحقتها روسيا، قد أوجد في أروبا الانقلاب الصناعي ونجح في العلوم التجريبية نجاحاً منقطع النظير، وامتد سلطانه منذ القرن التاسع عشر حتى الآن، حتى شمل نفوذه جميع العالم، فسمى أسلوب البحث في العلوم التجريبية طريقة علمية في التفكير فكان ما يسمى بالطريقة العلمية، وصار ينادي بها أن تكون طريقة التفكير، وجعلها أساساً للتفكير، وقد أخذها علماء الشيوعية، وساروا عليها في غير العلوم التجريبية، كما ساروا عليها في العلوم التجريبية. وكذلك ظل علماء أروبا يسيرون عليها في العلوم التجريبية، وسار على نهجهم علماء أمريكا، وقلدهم فيها سائر أبناء العالم من جرّاء سيطرة ونفوذ الغرب ثم نفوذ الاتحاد السوفيتي. فطغت على الناس بشكل عام هذه الطريقة، فكان من جرّاء ذلك أن وجدت في المجتمع في العالم الإسلامي كله قداسة للأفكار العلمية وللطريقة العلمية. ولذلك كان لا بد من بيان هذه الطريقة العلمية.

الطريقة العلمية هي منهج معين في البحث، يسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يبحث عنه، عن طريق إجراء تجارب على الشيء، ولا تكون إلا في بحث المواد المحسوسة، ولا يتأتى وجودها في الأفكار، فهي خاصة بالعلوم التجريبية، وهي تكون بإخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وملاحظة المادة والظروف والعوامل الأصلية، والتي خضعت لها، ثم تستنتج من هذه العملية على المادة حقيقة مادية ملموسة، كما هي الحال في المختبرات.

وتفرض هذه الطريقة التخلي عن جميع المعلومات السابقة عن الشيء الذي يبحث وعدم وجودها، ثم تبدأ بملاحظة المادة وتجربتها، لأنها تقتضيك إذا أردت بحثاً، أن تمحو من نفسك كل رأي وكل إيمان سابق لك في هذا البحث، وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية، فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمي تسرّب الخطأ إلى ناحية من نواحيها. فالنتيجة التي يصل إليها الباحث على الطريقة العلمية هي مع تسميتها حقيقة علمية أو قانوناً علمياً، فإنها ليست قطعية وإنما هي ظنية فيها قابلية الخطأ، وقابلية الخطأ هذه في الطريقة العلمية أساس من الأسس التي يجب أن تلاحظ فيها حسب ما هو مقرر في البحث العلمي.

هذه هي الطريقة العلمية، ومن بحثها يتبين أنها صحيحة وليست خطأ، وتسميتها طريقة ليس خطأ، لأنها منهج معين دائم في البحث، والطريقة هي الكيفية التي لا تتغير، ولكن الخطأ هو جعلها أساساً للتفكير، لأن جعلها أساساً لا يتأتى. إذ هي ليست أصلاً يبنى عليها، وإنما هي فرع بُني على أصل، ولأن جعلها أساساً يخرج أكثر المعارف والحقائق عن البحث، ويؤدي إلى الحكم على عدم وجود كثير من المعارف التي تدرس والتي تتضمن حقائق، مع أنها موجودة بالفعل وملموسة بالحس والواقع.

فالطريقة العلمية طريقة صحيحة، ولكنها ليست أساساً في التفكير، بل هي أسلوب دائم من أساليب التفكير، وهي تطبق على كل أمر وإنما تطبق في أمر واحد هو المادة المحسوسة لمعرفة حقيقتها عن طريق إجراء تجارب عليها، ولا تكون إلا في بحث المواد المحسوسة، فهي خاصة بالعلوم التجريبية ولا تستعمل في غيرها.

أما كونها ليست أساساً فظاهر من وجهين: الأول أنه لا يمكن السير بها إلا بوجود معلومات سابقة ولو معلومات أولية، لأنه لا يمكن التفكير إلا بوجود معلومات سابقة، فعالم الكيمياء وعالم الفيزياء، والعالم في المختبر، لا يمكن أن يسير في الطريقة العلمية لحظة واحدة إلا أن تكون لديه معلومات سابقة. وأما قولهم إن الطريقة العلمية تفرض التخلي عن المعلومات السابقة فإنما يريدون به التخلي عن الآراء السابقة لا عن المعلومات السابقة، أي أن الطريقة العلمية تقتضي الباحث إذا أراد البحث أن يمحو من نفسه كل رأي وكل إيمان سابق له في هذا البحث، وأن يبدأ بالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية. فهي وإن كانت عبارة عن ملاحظة وتجربة واستنباط، ولكن لا بد فيها من وجود معلومات، وهذه المعلومات تكون قد جاءت عن غير الملاحظة والتجربة، أي عن طريق نقل الواقع بواسطة الحواس، لأن المعلومات الأولية، لأول بحث علمي لا يمكن أن تكون معلومات تجريبية لأن ذلك لم يحصل بعد، فلا بد أن تكون عن طريق نقل الواقع بواسطة الحس إلى الدماغ، أي لا بد أن تكون المعلومات قد جاءت من طريق الطريقة العقلية، ولذلك لا تكون الطريقة العلمية أساساً، بل تكون الطريقة العقلية هي الأساس، والطريقة العلمية مبنية على هذا الأساس، فتكون فرعاً من فروعه لا أصلاً له. ولهذا فإن من الخطأ جعل الطريقة العلمية أساساً للتفكير.

الوجه الثاني أن الطريقة العلمية تقضي بأن كل ما لا يلمس مادياً لا وجود له في نظر الطريقة العلمية، وإذن لا وجود للمنطق، ولا للتاريخ، ولا للفقه، ولا للسياسة، ولا غير ذلك من المعارف، لأنها لا تلمس باليد، ولا تخضع للتجربة، ولا وجود لله، ولا للملائكة، ولا للشياطين، ولا غير ذلك من الموجودات، لأن ذلك لم يثبت علمياً، أي لم يثبت عن طريق ملاحظة المادة وتجربتها والاستناج المادي للأشياء. وهذا هو الخطأ الفاحش، لأن العلوم الطبيعية فرع من فروع المعرفة، وفكر من الأفكار، وباقي معارف الحياة كثيرة، وهي لم تثبت بالطريقة العلمية، بل تثبت بالطريقة العقلية، ووجود الله ثبت بالطريقة العقلية بشكل قاطع، ووجود الملائكة والشياطين ثبت بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ثبتت قطعيته وقطعية دلالته بالطريقة العقلية. ولذلك لا يجوز أن تتخذ الطريقة العلمية أساساً للتفكير، وعجزها وقصورها عن إمكانية إثبات شيء موجود بشكل قاطع دليل قاطع على أنها ليست أساساً للتفكير.

وفوق ذلك فإن قابلية الخطأ في الطريقة العلمية أساس من الأسس التي يجب أن تلاحظ فيها حسب ما هو مقرر في البحث العلمي. وقد حصل الخطأ في نتائجها بالفعل، وظهر ذلك في كثير من المعارف العلمية التي تبين فسادها بعد أن كان يطلق عليها حقائق علمية، فمثلاً الذرة، كان يقال عنها إنها أصغر جزء من المادة ولا تنقسم فظهر خطأ ذلك وتبين بالطريقة العلمية نفسها أنها تنقسم. وكذلك كان يقال إن المادة لا تفنى، فظهر خطأ ذلك وتبين بالطريقة العلمية نفسها أنها تفنى، وهكذا كثير مما كان يسمى بالحقائق العلمية والقانون العلمي، قد ظهر بالطريقة العلمية خطأ ذلك. وتبين بالطريقة العلمية نفسها أنها ليست حقائق علمية وليست قانوناً علمياً، ولذلك فإن الطريقة العلمية طريقة ظنية وليست قطعية، وهي توجد نتيجة ظنية عن وجود الشيء، وعن صفته، وعن حقيقته. ولذلك لا يجوز أن تتخذ الطريقة العلمية أساساً في التفكير. ولكنها على كل حال طريقة صحيحة في التفكير، وهي طريقة للتفكير، ولكنها تصلح في العلوم التجريبية وحدها، أي تصلح فيما يمكن أن تجري فيها الملاحظة والتجربة ثم الموازنة والترتيب. وما لا يمكن أن يجري فيه ذلك لا تصلح مطلقاً، فهي خاصة بالعلوم التجريبية ليس غير.

على أن الطريقة العلمية وإن كان يمكن أن يستنبط بها أفكار ولكنها لا ينشأ بها وحدها فكر. فهي لا تستطيع أن تنشئ إنشاءً جديداً أي فكر. كما هي الحال في الطريقة العقلية، وإنما هي تستنبط استنباطاً أفكاراً جديدة، ولكنها أفكار مستنبطة، لا أفكاراً منشأة إنشاءً جديداً.

فإن الأفكار المنشأة جديداً هي الأفكار التي أخذها العقل رأساً، فمعرفة وجود الله، ومعرفة أن التفكير بالقوم أعلى من التفكير الشخصي بذات الشخص، وأن الخشب يحترق، وأن الزيت يطفو على وجه الماء، وأن تفكير الفرد أقوى من تفكير الجماعة، كل ذلك أفكار أخذها العقل مباشرة. وهذا بخلاف الأفكار غير المنشأة إنشاءً جديداً. وهي الأفكار المستنتجة على الطريقة العلمية فإنها لم يأخذها العقل رأساً، وإنما أخذها من عدة أفكار أخذها العقل سابقاً إلى جانب التجارب، فمعرفة أن الماء مكون من أكسجين وأيدروجين، ومعرفة أن الذرة تنقسم، ومعرفة أن المادة تفنى، هذه الأفكار لم يأخذها العقل رأساً ولم تنشأ إنشاءً جديداً، وإنما أخذت من أفكار سبق للعقل أن أخذها. ثم أجريت التجارب إلى جانب هذه الأفكار، ثم جرى استنتاج الفكر، فهو ليس إنشاءً جديداً بل هو مستنتج من أفكار موجودة وتجربة. لذلك لا تعتبر إنشاءً جديداً، بل تعتبر أفكاراً مأخوذة من أفكار وتجربة. فالطريقة العلمية تستنبط فكراً، ولكنها لا تستطيع إنشاء فكر. ولذلك كان من الطبيعي، ومن المحتم، أن لا تكون هي أساساً للتفكير، إلا أن الغرب أي أروبا وأمريكا، وتلحق بهم روسيا، قد بلغت عندهم الثقة بالطريقة العلمية إلى حد التقديس أو ما يقرب من التقديس لا سيما في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلى حد أن أصبح منحرف التفكير، ضالاً عن الصراط المستقيم، لأنه جعل طريقته في التفكير الطريقة العلمية، وجعلها وحدها أساس التفكير، وحكمها في جميع الأشياء، فصار يرى أن البحث الصحيح هو الذي يجري على الطريقة العلمية، وتجاوز ذلك إلى حد أن صار بعضهم يبحث فعلاً أموراً لا علاقة للطريقة العلمية بها، كالأفكار المتعلقة بالحياة والمجتمع، على نهج الطريقة العلمية وتقليداً لها، وصار يبحث بعض المعارف المتعلقة بالإنسان وبالمجتمع وبالناس بحثاً عقلياً، ولكن على أسلوب الطريقة العلمية، ويطلق على هذه المعارف اسم العلم، وهذا من جراء تعميمه للطريقة العلمية وتقديره لها، وجعلها أساساً للتفكير.

فمثلاً سار علماء الشيوعية في وجهة نظرهم في الحياة، وفي نظام المجتمع على الطريقة العلمية، فوقعوا في الخطأ الفاحش الذي تردّوا فيه، والأمثلة على خطئهم كثيرة وموجودة في كل فكرة من أفكارهم، لأنهم قاسوا الطبيعة والمجتمع على الأشياء التي تبحث في المختبر فخرجوا بنتائج بالغة الخطأ، ويكفي لإدراك الخطأ في الجميع أن نأخذ فكرتين رئيسيتين، ونبين وجه الخطأ في كل منهما، وأن سبب الخطأ هو السير في الطريقة العلمية. ففكرتهم عن الطبيعة، أنها كل لا يتجزأ، وأنها في حالة تغير دائم، وأن هذا التغير يتم بواسطة التناقضات الحتمية الوجود في الأشياء والحوادث، فلنأخذ التناقضات التي هي من الأفكار الأساسية عندهم. هذه التناقضات إذا صح أنها موجودة في الأشياء، فإنها غير موجودة فيها جميعها، فهناك أشياء لا توجد فيها تناقضات، فالأجسام الحية التي يقولون إن فيها تناقضات بحجة أن فيها خلايا تموت وخلايا تحيا، هذه الأجسام الحية لا يوجد فيها تناقضات. وأما ما يشاهد في الجسم الحي من وجود خلايا تموت وخلايا تحيا فإنه ليس تناقضات، بل إن كون الأشياء تولد وتموت، وتفنى وتوجد، لا يعني أن هذا تناقضات بل هو ناتج عن قوة الخلية وضعفها، وقدرتها على المقاومة وعجزها عنها، وهذا ليس تناقضات، على أن الأجسام غير الحية يحصل فيها فناء ولا تحصل ولادة، ومع ذلك يقولون إنه يوجد في الأشياء كلها تناقضات، ولو سلمنا جدلاً أن في الأشياء تناقضات فإن هذا لا يعني أن في الحوادث تناقضات، فعمليات البيع والإجارة والشركة ونحوها، كلها تجري دون أي تناقضات فيها، وعمليات الصلاة والصوم والحج وأمثالها، كلها تجري دون أي تناقضات، فهي قطعاً لا يوجد فيها تناقضات، ولكن سلوكهم الطريقة العلمية هو الذي أدى إلى خطأ نظريتهم، ولا سيما في الحوادث، وقد كان من جراء خطأ نظرتهم هذه وهي أن الحوادث فيها تناقضات حتمية، أن أدت إلى ما كانوا يظنونه من أن التناقضات في أروبا ستحصل حتماً، وإذا أروبا لا يحصل فيها تناقضات، وتغرق في النظام الرأسمالي وتبعد عن الشيوعية، فالذي أوقعهم في الخطأ هو سلوك الطريقة العلمية في الحكم على الأشياء، وسلوكهم الطريقة العلمية في الحكم على الحوادث.

وفكرتهم عن المجتمع هي أن المجتمع مؤلف من الوسط الجغرافي ومن نمو السكان وتكاتفهم، ومن أسلوب الإنتاج، فالحياة المادية في المجتمع هي التي تحدد في النهاية هيئة المجتمع وأفكاره وآراءه وأوضاعه السياسية. وبما أن الحياة المادية إنما يؤثر فيها أسلوب الإنتاج، فيكون أسلوب الإنتاج هو الذي يؤثر في المجتمع، ذلك أن أدوات الإنتاج، والناس الذين يستعملون هذه الأدوات، ومعرفة استخدامها تؤلف بمجموعها قوى المجتمع المنتجة فتؤلف جانباً واحداً وهو الجانب الذي يعبّر عن سلوك الناس نحو أشياء الطبيعة، وقواها المنتجة، أما الجانب الآخر فهو علاقة الناس فيما بينهم أثناء سير الإنتاج، وهذا خطأ، فإن المجتمع هو الناس وما بينهم من علاقات. بغض النظر عن أدوات الإنتاج، بل بغضّ النظر عن وجود أدوات إنتاج أو عدم وجودها، لأن الذي يوجد العلاقات بينهم هو المصلحة، وهي لا تقررها أدوات الإنتاج، وإنما تقررها الأفكار التي يحملونها عن إشباع الحاجات التي يريدون إشباعها، والذي أوجد الخطأ هو أنهم رأوا المجتمع كما يرون المادة في المختبر، فصاروا يحاولون بحث ما يرونه من عناصر تطبيقاً لنظريتهم وأخذوا يطبقون ما يحصل في المادة على الناس وعلاقاتهم. فوقعوا في الخطأ، لأن الناس غير الأشياء، والعلاقات والحوادث لا تخضع للبحث كما تخضع المادة في المختبر، فإخضاعها للملاحظة والتجربة والخروج بنظريات هو الذي أوقعهم في الخطأ. فالشيوعية كلها سبب خطئها سبب واحد هو سلوكها الطريقة العلمية في الحوادث والعلاقات: وهذا كان من جرّاء ما شاع في القرن التاسع عشر من تقدير للطريقة العلمية، ومن الإغراق فيها إلى حد تطبيقها على كل شيء، والسير بها في كل بحث.

وأيضاً فإن علماء الغرب أي علماء أروبا وأمريكا خلطوا بين الأفكار الاستنتاجية الناتجة عن الطريقة العقلية والأفكار العلمية الناتجة عن الطريقة العلمية، فطبقوا الطريقة العلمية على تصرفات الإنسان وأحواله، وأخرجوا ما يسمى بعلم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية، فكانت نتيجة ذلك هذا الخطأ البارز فيما يسمى بعلم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية. إنهم يعتبرون ما يسمى علم النفس علماً، ويعتبرون أفكاره أفكاراً علمية، لأنها جاءت بناء على ملاحظات جرى تتبعها على الأطفال في ظروف مختلفة وأعمار مختلفة، فسموا تكرار هذه الملاحظات تجارب. والحقيقة أن أفكار علم النفس ليست أفكاراً علمية، وإنما هي أفكار عقلية، لأن التجارب العلمية هي إخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وملاحظة أثر هذا الإخضاع أي هي نفس التجارب على المادة كتجارب الطبيعة والكيمياء. أما ملاحظة الشيء في أوقات وأحوال مختلفة فليس بتجارب علمية، وعليه فإن ملاحظة الطفل في أحوال مختلفة وفي أعمار مختلفة لا يدخل في بحث التجارب العلمية، فلا يعتبر طريقة علمية، وإنما هو ملاحظة وتكرار للملاحظة واستنتاج فحسب، فهو طريقة عقلية، وليست علمية، فكان من الخطأ اعتباره أفكاراً علمية، وكان هذا الخطأ ناتجاً عن الخطأ الفاحش في تطبيق الطريقة العلمية على الإنسان، لأن الطريقة العلمية أهم ما فيها هو التجربة، وهذه لا تتأتى إلا في المادة، لأنها هي التي تخضع للاختبار في المختبر، والملاحظة ليست ملاحظة لأفعال أو لأشياء في ظروف مختلفة، بلا ملاحظة المادة نفسها وملاحظة الظروف والعوامل الأصلية، والتي أخضعت لها. والاستنتاج إنما يحصل من هذه الملاحظة بالذات لا مجرد ملاحظة. لذلك فإن تطبيق الطريقة العلمية على غير هذا الوجه بالذات، أي على غير المادة وإخضاعها، خطأ فاحش يؤدي إلى أخطاء فاحشة وإلى استنتاجات خاطئة، وهذا ما حصل مع علماء الغرب في الأبحاث العقلية التي ساروا بها على الطريقة العلمية واعتبروها علماً وأفكاراً علمية، فوقعوا في الخطأ الفاحش الذي تردّوا فيه. والأمثلة على خطئهم كثيرة وموجودة في كل فكرة من أفكارهم وفي كل بحث من أبحاثهم، قاسوا الإنسان على الأشياء التي تبحث فخرجوا بنتائج بالغة الخطأ. ويكفي لإدراك الخطأ أن نأخذ فكرة واحدة، وهي فكرة الغرائز ونبين وجه الخطأ فيها.

لقد كان من جراء سلوكهم في تطبيق الطريقة العلمية على الإنسان أن أخذوا يلاحظون أفعال الإنسان ويرجعونها إلى دوافع، وانشغلوا في الأفعال المتعددة وفي ملاحظتها. فصرفهم هذا عن البحث الحقيقي وجعلهم يخرجون بنتائج مغلوطة. والحقيقة أنهم لو سلكوا الطريقة العقلية لنقلوا إحساسهم بالإنسان وتصرفاته إلى الدماغ، ثم بالمعلومات السابقة فسروا واقع الإنسان وواقع هذه التصرفات لخرجوا بنتائج غير النتائج التي توصلوا إليها، حتى لو كانت نتائج ظنية، فهم مثلاً يقولون إن الغرائز كثيرة، فقد أحصوها أولاً، ثم لمّا رأوا أفعالاً أخرى صاروا يقولون إن الغرائز كثيرة ولا حصر لها، فقالوا هناك غريزة الملكية وغريزة الخوف وغريزة الجنس وغريزة القطيع. إلى غير ذلك من الغرائز التي قالوا بها. والسبب في ذلك هو أنهم لم يفرقوا بين الغريزة ومظهر الغريزة، أي بين كون الطاقة أصلية أو مظهر من مظاهرها. فالطاقة الأصلية أو الغريزة هي جزء من ماهية الإنسان فلا يمكن علاجها ولا يمكن محوها، ولا يمكن كبتها، فإنها لا بد أن توجد بأي مظهر من مظاهرها، بخلاف مظهر الطاقة الأصلية، أي مظهر الغريزة، فإنه ليس جزءاً من ماهية الإنسان، ولذلك يمكن علاجه، ويمكن محوه، ويمكن كبته، فغريزة البقاء من مظاهرها الأثرة ومن مظاهرها الإيثار، فيمكن معالجة الأثرة بالإيثار، بل يمكن محوها، ويمكن كبتها، ومثلاً الميل للمرأة بشهوة من مظاهر غريزة النوع، والميل للأم من مظاهر غريزة النوع، فغريزة النوع لا يمكن علاجها ولا يمكن محوها، ولا يمكن كبتها، ولكن معالجة مظاهر هذه الغريزة ممكنة، بل يمكن محو هذه المظاهر ويمكن كبتها. فمثلاً من مظاهر غريزة النوع الميل للمرأة بشهوة، والميل للأم، والميل للأخت، والميل للبنت وهكذا، فيمكن معالجة الميل للمرأة بشهوة بالميل بحنان للأم، فالحنان يعالج الشهوة كما يعالج الإيثار الأثرة. وكثيراً ما يكون حنان الأم صارفاً عن الزوجة وحتى عن الزواج وعن الميل الجنسي، وكثيراً ما يصرف الميل الجنسي الرجل عن حنان أمه، فأي مظهر من مظاهر غريزة النوع يمكن أن يسد مسد مظهر آخر، ويمكن أن يعالج مظهر بمظهر. فالمظهر يجري علاجه، بل يجري كبته ومحوه، ولكن الغريزة لا يمكن فيها ذلك، لأن الغريزة جزء من ماهية الإنسان، بخلاف المظهر فإنه ليس جزءاً من ماهيته.

ومن هنا أخطأ علماء النفس بالغرائز وفهمها وحصرها ثم عدم حصرها. والحقيقة أن الغرائز محصورة بثلاث غرائز. هي غريزة البقاء، وغريزة النوع، وغريزة التدين أو التقديس. وذلك أن الإنسان يحرص على بقاء ذاته، فهو يملك ويخاف ويندفع بالإقدام، ويتجمع، إلى غير ذلك من مثل هذه الأفعال من أجل بقاء ذاته. فالخوف ليس غريزة، والملك ليس غريزة، والشجاعة ليست غريزة، والقطيع ليس غريزة الخ، وإنما هي مظاهر لغريزة واحدة هي غريزة البقاء، وكذلك الميل إلى المرأة عن شهوة، والميل إلى المرأة عن حنان، والميل إلى إنقاذ الغريق، والميل إلى إغاثة الملهوف الخ كل ذلك ليس غرائز وإنما هي مظاهر لغريزة واحدة هي غريزة النوع، وليست غريزة الجنس، لأن الجنس يجمع الحيوان والإنسان، والميل الطبيعي إنما هو من الإنسان للإنسان، ومن الحيوان للحيوان، فالميل بشهوة من الإنسان للحيوان هو شاذ وليس طبيعياً، ولا يحصل طبيعياً وإنما يحصل شذوذاً، والغريزة هي الميل الطبيعي، وكذلك ميل الذكر للذكر هو شاذ وليس طبيعياً، ولا يحصل طبيعياً وإنما يحصل شذوذاً، فالميل بشهوة للمرأة، والميل بحنان للأم، والميل بحنان للبنت، كلها مظاهر لغريزة النوع. ولكن الميل بشهوة من الإنسان للحيوان، ومن الذكر للذكر ليس طبيعياً وإنما هو انحراف بالغريزة فهو شاذ، فالغريزة هي غريزة النوع وليست غريزة الجنس، وهي لبقاء النوع الإنساني لا لبقاء جنس الحيوان، وأيضاً فإن الميل لعبادة الله، والميل لتقديس الأبطال، والميل لاحترام الأقوياء، كل ذلك مظاهر لغريزة واحدة هي غريزة التدين أو التقديس، وذلك أن الإنسان لديه شعور طبيعي بالبقاء والخلود، فكل ما يهدد هذا البقاء يشعر تجاهه طبيعياً، شعوراً حسب نوع هذا التهديد، بالخوف أو الإقدام، بالبخل أو الكرم، بالفردية أو التجمع، حسب ما يراه فيوجد عنده شعوراً يدفعه للعمل فتظهر عليه مظاهر من الأفعال ناتجة عن الشعور بالبقاء، وكذلك عنده شعور ببقاء النوع الإنساني، لأن فناء الإنسان يهدد بقاءه، فكل ما يهدد بقاء نوعه يشعر تجاهه طبيعياً شعوراً حسب نوع هذا التهديد، فرؤية المرأة الجميلة تثير فيه الشهوة، ورؤية الأم تثير فيه الحنان، ورؤية الطفل تثير فيه الإشفاق، فيشعر شعوراً يدفعه للعمل فتظهر عليه مظاهر من الأفعال قد تكون منسجمة وقد تكون متناقضة، وأيضاً فإن عجزه عن إشباع شعور البقاء أو بقاء النوع يثير فيه مشاعر أخرى هي الاستسلام والانقياد لما هو حسب شعوره مستحق للاستسلام والانقياد، فيبتهل إلى الله، ويصفق للزعيم، ويحترم القوي، وذلك نتيجة لشعوره بالعجز الطبيعي، فأصل الغرائز هو الشعور بالبقاء أو بقاء النوع أو العجز الطبيعي، ونتج عن هذا الشعور أعمال. فكانت هذه الأعمال مظاهر لتلك الأصول الطبيعية، وهي في مجملها يرجع كل مظهر منها إلى أصل من هذه الأصول الثلاثة، لذلك كانت الغرائز ثلاثة ليس غير.

على أن الأصل في الإنسان هو أن لديه طاقة حيوية، وهذه الطاقة الحيوية فيها إحساسات طبيعية تدفع الإنسان للإشباع، فهذا الدفع يكون مشاعر أو إحساسات، وهي تتطلب الإشباع، منها ما يتطلب الإشباع حتماً وإذا لم يشبع يموت الإنسان لأنه يتعلق بوجود الطاقة من حيث هو وجود، ومنها ما يتطلب الإشباع ولكن بشكل غير حتمي، فإذا لم يحصل الإشباع ينزعج ولكنه يبقى حياً، لأنه يتعلق بحاجات الطاقة لا بوجودها، ولذلك كانت الطاقة الحيوية ذات شقين: أحدهما يتطلب الإشباع الحتمي، وهذا ما يطلق عليه الحاجات العضوية، وذلك كالجوع والعطش وقضاء الحاجة، وثانيهما يتطلب مجرد الإشباع، وهذا ما يطلق عليه الغرائز، وهي ثلاث: غريزة البقاء، وغريزة النوع، وغريزة التدين.

هذا هو الحق في الغرائز، وهذا هو الحق في الإنسان، فلو سلك علماء الغرب الطريقة العقلية بنقل الإحساس بالإنسان وأفعاله وفسروا هذا الواقع أو هذا الإحساس بالواقع بالمعلومات السابقة لاهتدوا لحقيقة هذا الواقع، ولكن سلوكهم الطريقة العلمية، واعتبارهم أن الإنسان كالمادة، وظنهم أن ملاحظة أفعال الإنسان هي كملاحظة المادة، ضللهم ذلك عن الحقيقة وخرجوا بهذه النتائج الخاطئة في الغرائز، وفي غيرها من أبحاث علم النفس، وقل مثل ذلك فيما يسمى بعلم الاجتماع وعلوم التربية، فإنها كلها ليست من العلوم، وهي في جملتها خطأ في خطأ، فهذه الأخطاء التي حصلت في الغرب، في أروبا وأمريكا والملحقة بها روسيا، أي لدى علماء الشيوعية، ولدى علماء النفس وعلماء الاجتماع وعلماء التربية، هي نتيجة اتباعهم الطريقة العلمية في بحث كل شيء، ومغالاتهم في تقدير الطريقة العلمية وتطبيقها على جميع الأبحاث، وهذا هو الذي أوقعهم في الخطأ والضلال، وهو يوقع كل إنسان يطبق الطريقة العلمية على كل بحث.

إن الطريقة العلمية طريقة صحيحة في التفكير، وهي ليست طريقة خاطئة، ولكنها طريقة صحيحة في البحث العلمي وحده، فيجب أن يحصر استعمالها في البحث العلمي، أي في المادة التي تخضع للتجربة، والخطأ هو استعمالها في غير الأبحاث العلمية، أي في غير بحث المادة التي تخضع للتجربة، فمن الخطأ والغلط أن تطبق في بحث وجهة النظر في الحياة، أي ما يسمى (بالأيديولوجية) ومن الخطأ أن تطبق على الإنسان، أو على المجتمع، أو على الطبيعة، أو في أبحاث التاريخ، أو أبحاث الفقه، أو أبحاث التعليم، أو ما شاكل ذلك من الأبحاث. بل يجب أن تحصر في البحث العلمي فقط، أي في بحث المادة التي تخضع للتجربة.

والخطأ الذي حصل، في تطبيق الطريقة العلمية على كل بحث، ناتج عن جعل الطريقة العلمية أساساً في التفكير، لأن جعلها أساساً في التفكير هو الذي جر إلى جعلها أصلاً يبنى عليه، وجعلها أساساً لكل بحث، فإن جعلها أساساً في التفكير يجر إلى تطبيقها على أبحاث لا تنطبق عليها هذه الطريقة، كبحث الأنظمة وبحث الغرائز، وبحث الأدمغة، وبحث التعليم وما شاكل ذلك مما أدى إلى وقوع الأخطاء الفاحشة في الفكرة الاشتراكية وفيما يسمى بعلم النفس وعلوم التربية وعلم الاجتماع. وفوق ذلك فإن جعلها أساساً في التفكير يخرج أكثر المعارف والحقائق عن البحث، ويؤدي إلى الحكم على عدم وجود كثير من المعارف التي تدرس والتي تتضمن حقائق، مع أنها موجودة بالفعل وملموسة بالحس، وأيضاً فإنه يؤدي إلى إنكار كثير من الموجودات.

على أن الطريقة العلمية ظنية، وقابلية الخطأ فيها أساس من الأسس التي يجب أن تلاحظ فيها، فلا يجوز أن تتخذ أساساً للتفكير، وذلك أن الطريقة العلمية توجد نتيجة ظنية عن وجود الشيء وعن حقيقته وعن صفته. وهناك أشياء يجب أن تكون النتيجة عن وجودها قطعية جازمة. فلا يصح أن تكون الطريقة الظنية أساساً للوصول إلى النتيجة القطعية، وهذا وحده كافٍ لجعل الطريقة الظنية غير صالحة لأن تكون أساساً للتفكير.

وعلى هذا فإن للتفكير طريقتين اثنتين ليس غير، هما الطريقة العقلية، والطريقة العلمية، ولا يوجد غيرهما بعد البحث والاستقراء، والطريقة العلمية لا تصلح إلا في فرع من فروع المعرفة، وهو فرع بحث المادة التي تخضع للتجربة، بخلاف الطريقة العقلية فإنها تصلح لكل بحث من الأبحاث. لذلك فإنه يجب أن تكون الطريقة العقلية هي الأساس في التفكير. ففي الطريقة العقلية ينشأ الفكر، وبدونها لا ينشأ فكر إنشاءً جديداً، وبواسطة الطريقة العقلية يوجد إدراك الحقائق العلمية بالملاحظة والتجربة والاستنتاج، أي بواسطتها توجد الطريقة العلمية نفسها، وبواسطتها يوجد إدراك الحقائق المنطقية، وبواسطتها يوجد إدراك حقائق التاريخ وتمييز الخطأ من الصواب فيها، وبواسطتها توجد الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة وعن حقائق الكون والإنسان والحياة. والطريقة العقلية تعطي نتيجة قطعية عن وجود الشيء، وهي وإن كانت تعطي نتيجة ظنية عن كنه الشيء وصفته، ولكنها تعطي نتيجة قطعية عن وجوده، فهي من حيث حكمها على وجود الشيء قطعية يقينية، فيجب أن تتخذ هي وحدها أساساً للبحث، أي أساساً باعتبار أن نتائجها قطعية. وعلى هذا لو تعارضت نتيجة عقلية مع نتيجة علمية عن وجود الشيء تؤخذ الطريقة العقلية حتماً وتترك النتيجة العلمية التي تتعارض مع النتيجة العقلية. لأن القطعي هو الذي يؤخذ لا الظني.

ومن هنا كان الخطأ الموجود هو اتخاذ الطريقة العلمية أساساً للتفكير، وجعلها حَكَماً في الحكم على الأشياء. فيجب أن يصحح هذا الخطأ، ويجب أن تصبح الطريقة العقلية هي أساس التفكير، وهي التي يرجع إليها في الحكم على الأشياء.

أما البحث المنطقي فإنه ليس طريقة في التفكير، وإنما هو أسلوب من أساليب البحث المبنية على الطريقة العقلية، لأن البحث المنطقي هو بناء فكر على فكر بحيث ينتهي إلى الحس والوصول عن طريق هذا البناء إلى نتيجة معينة. مثل: لوح الكتابة خشب، وكل خشب يحترق، فتكون النتيجة أن لوح الكتابة يحترق، ومثل لو كان في الشاة المذبوحة حياة لتحركت، لكنها لم تتحرك، فتكون النتيجة أنه لا توجد في الشاة المذبوحة حياة. وهكذا. فقد قرنت في المثال الأول فكرة كل خشب يحترق مع فكرة لوح الكتابة خشب، فنتج عن هذا الاقتران أن لوح الكتابة يحترق. وقرن في المثال الثاني كون الشاة المذبوحة لم تتحرك مع فكرة أن الحياة في الشاة المذبوحة تجعلها تتحرك، فنتج عن هذا الاقتران أن الشاة المذبوحة لا توجد فيها حياة. فهذا البحث المنطقي إذا كانت قضاياه التي تتضمن الأفكار التي جرى اقترانها صادقة تكون النتيجة صادقة، وإذا كانت كاذبة تكون النتيجة كاذبة. وشرط المقدمات أن تنتهي كل قضية منها إلى الحس. ولذلك ترجع إلى الطريقة العقلية ويحكم فيها الحس حتى يفهم صدقها. ومن هنا كانت أسلوباً من الأساليب المبنية على الطريقة العقلية، وفيها قابلية الكذب، وقابلية المغالطة، وبدل أن يختبر صدق المنطق بالرجوع إلى الطريقة العقلية، الأولى أن تستعمل الطريقة العقلية في البحث ابتداء، وأن لا يلجأ إلى الأسلوب المنطقي.

وهنا لا بد من التنبيه إلى مسألتين: إحداهما، أن الطريقة العلمية أهم ما فيها هو: أنها تقتضيك إذا أردت بحثاً أن تمحو من نفسك كل رأي وكل إيمان لك في هذا البحث الذي تبحثه. وأن هذا هو الذي يجعل البحث سائراً في الطريقة العلمية، وعلى هذا الأساس يقولون إن هذا البحث بحث علمي، وهذا البحث يسير حسب الطريقة العلمية. والجواب على هذا هو أن هذا الرأي صحيح، ولكنه ليس علمياً، ولا هو يسير في الطريقة العلمية. بل هو عقلي ويسير في الطريقة العقلية. وذلك أن الموضوع ليس متعلقاً بالرأي بل متعلق بالبحث، فالبحث العقلي يكون بنقل الواقع بواسطة الإحساس إلى الدماغ، والبحث العلمي يكون بواسطة التجربة والملاحظة. هذا هوالذي يميز الطريقة العقلية عن الطريقة العلمية.فالشيء إذا أحسه المرء يحكم بوجوده حسب الطريقة العقلية، والشيء إذا لم تدل التجربة والملاحظة على وجوده لا يحكم بوجوده. فكون الخشبة تحترق، يكفي في الطريقة العقلية أن يحس باحتراقها، ولكن في الطريقة العلمية لا بد أن تخضع للتجربة والملاحظة حتى يحكم بأنها تحترق. فكون لا بد من وجود معلومات سابقة أمر لا بد منه في الطريقة العقلية. وتفرض الطريقة العلمية التخلي عن المعلومات السابقة. مع أنه لا يمكن أن يحصل تفكير إلا إذا وجدت. وأما الآراء السابقة والإيمان السابق فإنما يقصدون به ما عنده من معلومات وأحكام سابقة. ولذلك فإن موضوع وجود آراء سابقة لا يقصد به الرأي من حيث هو رأي، وإنما يقصد به الحكم السابق. لذلك فإن الموضوع في الطريقة العلمية ليس وجود رأي سابق أو إيمان سابق، وإنما المقصود به الحكم السابق كمعلومات تفسر بها التحربة والملاحظة. فأهم ما في الطريقة العلمية هو التجربة والملاحظة وليس الرأي أو المعلومات.

وأما الرأي السابق أو الإيمان السابق واستعماله عند البحث أو عدم استعماله، وتدخله في البحث أو عدم تدخله فإن سلأمة البحث وصحة نتيجة البحث تقتضي التخلي عن كل رأي سابق للموضوع، أي تقتضي التخلي عما في ذهنه من آراء وأحكام عن الموضوع الذي يجري بحثه حتى لا يؤثر عليه في البحث ولا يؤثر على نتيجة البحث. فمثلاً عندي رأي أنه لا يمكن أن تتوحد فرنسا وألمانيا في دولة واحدة وأن يكونا أمة واحدة. فعند البحث في توحيدهما ليكونا أمة واحدة ودولة واحدة، لا يصح أن يكون هذا الرأي موجوداً عند البحث في توحيدهما، لأنه يفسد علي البحث ويفسد علي النتيجة. ومثلاً عندي رأي بأن النهضة لا يمكن أن توجد إلا بالصناعة والاختراع والتعليم، فعند البحث في إنهاض شعبي أو أمتي يجب أن أتخلى عن هذا الرأي. ومثلاً عندي رأي أن الذرة أصغر شيء في المادة وأنها لا تنقسم. فعند البحث في جعل الذرة تنشطر وتنقسم لا بد أن أمحو من نفسي هذا الرأي. وهكذا فإنه يجب أن يتخلى المرء عند البحث في أي شيء، عن كل رأي سابق له عن البحث وعن الشيء الذي يريد أن يبحثه أو يبحث فيه.

إلا أن هذه الآراء التي يجب أن يتخلى عنها عند البحث ينظر فيها، فإن كانت آراء قطعية ثبتت بالدليل القطعي الذي لا يتطرق إليه أدنى ارتياب، فإنه لا يصح أن يتخلى عنه ولا بحال من الأحوال إذا كان البحث الذي يبحثه ظنياً، وكانت النتيجة التي توصل إليها ظنية، لأنه إذا تعارض القطعي والظني يؤخذ القطعي ويرد الظني. لذلك لا بد أن يتحكم القطعي بالظني. أما إذا كان البحث قطعياً والنتيجة التي يتوصل إليها قطعية، فإنه في هذه الحال لا بد أن يتخلى عن كل رأي وكل إيمان سابق، فالتخلي عن كل رأي سابق أمر لا بد منه لسلأمة البحث وصحة النتيجة، إلا إنه إن كان البحث ظنياً فإنه لا يصح أن يتخلى عند بحثه له عن الآراء القاطعة والإيمان الجازم. ولكن لا بد أن يتخلى عن كل رأي ظني سابق في الموضوع. وهذا لا فرق فيه بين الطريقة العقلية والطريقة العلمية. وآفة الأبحاث إنما هي في تدخل الآراء السابقة في البحث.

وأما ما يسمى بالموضوعية. فهو ليس التخلي عن كل رأي سابق فحسب، بل حصر البحث في الموضوع الذي يبحث إلى جانب التخلي عن كل رأي سابق. فحين تبحث في تحليل زيت الزيتون لا يصح أن يتطرق لهذا البحث أي بحث آخر ولا أي شيء آخر ولا أي رأي. وحين تبحث في سياسة الصناعة لا يصح أن يتطرق لهذا البحث أي بحث آخر ولا أي شيء آخر ولا أي رأي. فلا يفكر بالأسواق، ولا بالربح، ولا في الأخطار، ولا في أي شيء غير سياسة الصناعة للدولة. وحين تبحث في استنباط الحكم الشرعي، لا يصح أن تفكر في المصلحة، ولا في الضرر، ولا في رأي الناس، ولا في أي شيء غير الاستنباط للحكم الشرعي. وهكذا كل بحث لا بد أن يحصر الذهن في موضوع البحث. فالموضوعية ليست هي عدم تدخل الرأي السابق في الموضوع فحسب، بل هي إلى جانب ذلك حصر البحث في الموضوع نفسه وإبعاد أي شيء آخر عنه وحصر الذهن في الموضوع المبحوث فقط.

أما المسألة الثانية فهي المنطق، إن المنطق وكل ما يتعلق به فيه قابلية الخداع وقابلية التضليل، وهو أكثر ما يضر في التشريع والسياسة. ذلك أن المنطق تبنى نتائجه على مقدمات، وكذب هذه المقدمات أو صدقها ليس من السهل إدراكه في جميع الأحوال، لذلك قد يكون كذب إحدى هذه المقدمات خفياً، أو يكون صدقها مبنياً على معلومات خاطئة، فيؤدي ذلك إلى نتائج خاطئة. على أن المنطق يمكن الوصول به إلى نتائج متناقضة مثل: القرآن كلام الله، وكلام الله قديم، فالقرآن قديم. وعكسها القرآن كلام الله في اللغة العربية، واللغة العربية مخلوقة، فالقرآن مخلوق. وقد يؤدي إلى نتائج مضللة مثل: المسلمون متأخرون، وكل متأخر منحط، فالمسلمون منحطون. وهكذا تجد أن أخطار المنطق أخطار فظيعة، فقد تؤدي إلى الخطأ، وقد تؤدي إلى الضلال، بل قد تؤدي إلى الدمار. والشعوب والأمم التي تعلقت بالمنطق حال المنطق بينها وبين رفعة الحياة. لذلك فإن المنطق وإن كان أسلوباً من أساليب الطريقة العقلية، ولكنه أسلوب عقيم، بل أسلوب مضر، وخطره خطر مدمر. ولذلك لا بد من نبذه، بل لا بد من الحذر منه، والحيلولة بينه وبين الناس.

والأسلوب المنطقي وإن كان أسلوباً من أساليب الطريقة العقلية ولكنه أسلوب معقد، وأسلوب فيه قابلية الخداع والتضليل وقد يوصل إلى عكس الحقائق التي يراد إدراكها. وفوق ذلك فإنه- سواء احتاج إلى تعلم علم المنطق أو كان منطقياً فطرة- لا يصل إلى النتائج من الإحساس بالواقع رأساً، وإنما ينتهي بالإحساس بالواقع، ولذلك يكاد يكون طريقة ثالثة في التفكير، وبما أن التفكير ليس له إلا طريقتان اثنتان ليس غير، فإن الأولى تجنب هذا الأسلوب، والأسلم للوثوق بصحة النتائج أن نستعمل الطريقة العقلية المباشرة، لأنها هي التي يضمن فيها صحة النتيجة.

ومهما يكن من أمر فإن الطريقة الطبيعية في التفكير، والطريقة التي يجب أن تكون هي الطريقة الأساسية، إنما هي الطريقة العقلية. وهي طريقة القرآن، وبالتالي هي طريقة الإسلام. ونظرة عاجلة للقرآن تُري أنه سلك الطريقة العقلية، سواء في إقأمة البرهان، أو في بيان الأحكام. انظر إلى القرآن تجده يقول في البرهان: "فلينظر الإنسان مم خلق" "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت" "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون" "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله، إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض" "إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب" "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" إلى غير ذلك من الآيات، وكلها تأمر باستعمال الحس لنقل الواقع حتى يصل إلى النتيجة الصحيحة. وتجده يقول في الأحكام "حرمت عليكم أمهاتكم" "حرمت عليكم الميتة" "كتب عليكم القتال وهو كره لكم" "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" "وشاورهم في الأمر" "أوفوا بالعقود" "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين" "أحل الله البيع وحرم الربا" "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك" "حرض المؤمنين على القتال" "انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" "فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن" إلى غير ذلك من الآيات، وكلها تعطي أحكاماً محسوسة لوقائع محسوسة، وفهمها، سواء للحكم أو للواقعة التي جاء بها الحكم، إنما يأتي بالطريقة العقلية. أي أن التفكير بها وبتطبيقها إنما يكون بالطريقة العقلية، وبالأسلوب المباشر لا بالأسلوب المنطقي. وما يتوهم فيه بأنه جاء على الأسلوب المنطقي، من مثل قوله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" فإنه جاء كذلك بالأسلوب المباشر، فلم يأت بمقدمات، بل جاء بطلب التفكير ينقل الإحساس مباشرة إلى الدماغ، وليس عن طريق مقدمات مربوط بعضها ببعض.

وعلى ذلك فإن الطريقة العقلية وحدها هي التي يجب أن يسير عليها الناس، وإن الأسلوب المباشر هو الأسلم للسير عليه وذلك حتى يكون التفكير صحيحاً، وتكون نتيجة التفكير أقرب إلى الصواب فيما هو ظني، وقاطعة بشكل جازم فيما هو قطعي، لأن المسألة كلها متعلقة بالتفكير. وهو أغلى ما لدى الإنسان، وأغلى شيء في الحياة، وتتوقف عليه كيفية السير في الحياة. ولذلك لا بد من الحرص عليه بالحرص على طريقة التفكير.

والتفكير –سواء في فهم الحقائق، أو في فهم الحوادث، أو في فهم النصوص، أي سواء في الإدراك أو في الفهم- فإنه نظراً للتجدد الدائم، وللتنوع المتعدد؛ عرضة للانزلاق وعرضة للابتعاد، ولذلك فإنه لا يكفي أن يبحث في طريقة التفكير. بل لا بد أن يبحث التفكير نفسه بشكل مفتوح، في مختلف الأحوال والحوادث والأشياء، فيبحث التفكير فيما يصح أن يجري التفكير فيه وفيما لا يصح أن يجري فيه. ويبحث التفكير في الكون والإنسان والحياة، ويبحث التفكير في العيش، ويبحث التفكير في الحقائق، ويبحث التفكير في الأساليب، ويبحث التفكير في الوسائل، ويبحث التفكير في الغايات والأهداف، إلى غير ذلك مما يتصل بالتفكير، وإلى جانب ذلك لا بد أن يبحث التفكير الذي هو فهم للكلام الذي يسمع، والكلام الذي يقرأ، أي لا بد أن يبحث التفكير في فهم النصوص.

أما البحث فيما يصح أن يجري فيه التفكير وما لا يصح أن يجري فيه، فإنه على بداهته عقدة العقد، ومنزلق الكثير من الناس حتى المفكرين. أما بداهته فإن تعريف العقل، أو معرفة معنى العقل معرفة جازمة، تقضي بداهة بأن التفكير إنما يجري فيما هو واقع أو له واقع، ولا يصح أن يجري في غير الواقع المحسوس، لأن عملية التفكير هي نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ، فإذا لم يكن هناك واقع محسوس، فإن العملية الفكرية لا يمكن أن تحصل، فإن انتفاء الحس بالواقع ينفي وجود التفكير وينفي إمكانية التفكير. وأما كون البحث فيه عقدةَ العقد فإن الكثير من المفكرين قد جرى بحثه في غير الواقع. وما الفلسفة اليونانية كلها إلا بحثاً في غير الواقع، وما أبحاث علماء التربية في تقسيم الدماغ إلا بحثاً في غير محسوس. وما بحث الكثير من علماء المسلمين في صفات الله وفي أوصاف الجنة والنار والملائكة إلا بحثاً فيما لا يقع عليه الحس. ثم إن الناس بشكل عام يغلب على أخذهم كثيراً من الأفكار وعلى تفكيرهم في كثير من الأمور، التفكير في غير الواقع، أو في غير ما يقع عليه الحس. ومن هنا كان البحث فيما يصح أن يجري فيه التفكير وما لا يصح هو عقدة العقد.

إلا إنه مع ذلك، ومع وجود المعارف الكثيرة، والمحترمة، والمجزوم بها عقيدة، مما لا يصح أن يجري فيه التفكير، فإن تعريف العقل، واتخاذ الطريقة العقلية أساساً للتفكير، يقضي بأن ما هو ليس واقعاً، وما ليس مما يقع عليه الحس لا يصح أن يجري التفكير فيه، ولا يصح أن يسمى ما يجري فيه عملية عقلية. فمثلاً القول بالعقل الأول والعقل الثاني الخ هو مجرد تخيلات وفروض. فإنها ليست واقعاً وقع عليه الحس، ولا مما يمكن أن يقع عليه الإحساس. فالمخيلة هي التي تخيلت، وفرضت فروضاً نظرية، وتوصلت إلى نتائج، فهو ليس عملية عقلية. والتخيل ليس تفكيراً، وحتى الفروض كلها ولو كانت فروضاً في العلوم الرياضية، ليست تفكيراً ولا عملية عقلية. وعلى هذا فإنه يمكن أن يقال إن الفلسفة اليونانية كلها ليست من الأفكار، ولا جرت فيها العملية العقلية، فلا يصح أن تعتبر نتائج للتفكير.لأنه لم يجر فيها تفكير، ولا وجدت فيها العملية العقلية. فهي مجرد تخيلات وفروض.

ومثلاً القول بأن الدماغ مقسم إلى أقسام، وأن كل قسم منها مختص بعلم من العلوم الخ كلها مجرد تخيلات وفروض، فهي ليست واقعاً، لأن واقع الدماغ المحسوس أنه غير مقسم، وليست مما يقع عليه الحس، لأن الدماغ وهو يعمل، أي يقوم بالعملية العقلية لا يمكن أن يقع عليه الحس، فالقول بتقسيمه، فوق كونه مخالفاً للواقع فإنه لم يأت بنتيجة الإحساس. ولذلك فإنه يمكن أن يقال إن علوم التربية ليست كلها أفكاراً، ولا هي نتيجة عملية فكرية. وإنما هي مجرد تخيلات وفروض.

ومثلاً القول بأن الله له صفة القدرة، وصفة كونه قادراً، والقدرة لها تعلق تخييري قديم وتعلق تخييري حادث. وكذلك إقأمة البراهين العقلية على صفات الله، كل ذلك وأمثاله، ولو وضعت عليه مسحة البحث العقلي والبرهان العقلي، فإنه ليس فكراً، ولا هو نتيجة تفكير، إذ لم تجر فيه العملية العقلية، لأنه ليس مما يقع عليه حس الإنسان.

فالعملية العقلية، أي التفكير، لا يمكن أن يكون إلا بواقع يقع عليه حس الإنسان. إلا أن هناك أموراً أو أشياء لها واقع، ولكن هذا الواقع لا يمكن أن يحسه الإنسان ولا يمكن نقله بالحس، ولكن أثره يقع عليه حس الإنسان وينقل إلى الدماغ بواسطة الإحساس، فإن هذا النوع من الأمور يمكن أن تجري فيه العملية العقلية، أي يمكن أن يحصل فيه تفكير، ولكنه تفكير بوجوده لا بكنهه، لأن الذي نقل إلى الدماغ بواسطة الحس هو أثره، وأثره إنما يدل على وجوده فقط، ولا يدل على كنهه. فمثلاً لو أن طائرة كانت عالية جداً إلى حد أن العين المجردة لا تراها، ولكن صوتها تسمعه الأذن، فإن هذه الطائرة يمكن أن يحس الإنسان بصوتها، وهذا الصوت دليل على وجود شيء. أي على وجود الطائرة. ولا يمكن أن يدل على كنه هذه الطائرة. فالصوت المسموع والآتي من فوق هو صوت لشيء موجود، ومن تمييز حسه يستدل على أنه صوت طائرة. فالعملية العقلية هنا جرت في وجود الطائرة. أي حصل التفكير بوجود الطائرة. وصدر الحكم بوجودها. مع أن الحس لم يقع عليها، ولكنه وقع على أثرها، أي على شيء يدل على الطائرة، فحكم العقل عن وجودها من وجود أثرها، صحيح أنه يمكن أن يعرف صوت طائرة الميراج من صوت طائرة الفانتوم، ويمكن الحكم على نوعها كما يمكن الحكم على أنها طائرة من تمييز نوع الصوت ولكن معرفة أنها طائرة ميراج أو طائرة فانتوم إنما أتى من تمييز الصوت، كما أن الحكم على أنها طائرة أو ليست طائرة قد أتى من تمييز الصوت. إلا أن هذا الحكم ليس حكماً على كنهها بل هو حكم على نوع هذا الموجود من تمييز أثره. وعلى أي حال، فإن هذا فكر، أيا كان، لأن العملية جرت فيه فعلاً، أي جرى التفكير فيه لأن الحواس نقلت أثره. ولا يقال إن هذا الحكم على وجود الطائرة ظني، فإن الموضوع هو إمكانية وجود التفكير فيما يحس الإنسان أثره ولا يحس ذاته. وعلى أي حال فإنه إن كان الحكم على كون الصوت هو صوت طائرة ظنياً، فإن الحكم بوجود شيء خرج منه الصوت هو حكم قطعي، والطريقة العقلية، يمكن أن تكون نتائجها ظنية ويمكن أن تكون قطعية، حسب الإحساس الذي ينقل إلى الدماغ وحسب المعلومات التي يفسر بها هذا الواقع.

إلا أن هذا التفكير الذي يجري فيما لا يقع عليه الحس إنما هو خاص فيما يقع الحس على أثره، لأن أثر الشيء جزء من وجوده، فما يقع الحس على أثره يعتبر أن الحس وقع على وجوده، ولذلك يصح أن يقع فيه التفكير، ويصح أن يقع التفكير في وجوده قطعاً، وأن يقع كذلك فيما يدل عليه الحس ويميزه من نوعه. أما ما عدا ذلك فلا يمكنه أن يجري فيه التفكير ولذلك لا يكون فكراً. فمثلاً أن الحس يقع على أمور تكون أوصافاً للشيء وليست أثراً له، فتتخذ هذه الصفات وسيلة للحكم على الأمر وعلى الشيء. وذلك مثل: أن أمريكا تعتنق فكرة الحرية، وهذا يعني أنها ليست دولة استعمارية، لأن الاستعمارية استعباد للشعوب، وهذا يناقض فكرة الحرية. فهذه المقدمة، وهي اعتناق فكرة الحرية من قبل أمريكا، ليست أثراً من آثار أمريكا في خارج بلادها، بل هي صفة من صفاتها، فكون الشيء صفته كذا، لا تعني أن هذه الصفة أثره. لذلك لا يجري التفكير فيها، فهي ليست صفة ينقلها الحس إلى الدماغ للحكم على الأعمال كلها، وإنما هي صفة خاصة بالأمر وليست أثراً من آثاره، لذلك لا يحكم بواسطتها كمقدمة على الأفعال. لأن الأفعال لا توجد من الإنسان من جراء اتصافه بصفة معينة، بل توجد لاعتبارات شتى وصفات متعددة ومختلفة. ومثل أن الإسلام دين عزة، فإن هذا لا يعني أن المسلم يكون عزيزاً، لأن العزة ليست هي الدين. بل هي فكرة من أفكاره، ثم إن الإنسان حين يعتنق ديناً لا يعني أنه قد تقيد به. وبذلك لا تكون العزة أثراً من آثار الدين بل هي صفة من صفاته، والدين ليس التقيد به أثراً من آثاره، بل هو صفة من صفاته، ولذلك لا يجري فيه التفكير. بل هو عبارة عن مجرد فرض، وليس تفكيراً. وعليه فالذي يجري فيه التكفير هو أثر الشيء لا صفته، لأن الأثر يمكن أن ينقل بالحس، ولكن الصفة لما لا يحس لا يمكن نقلها بواسطة الحواس، وهي فيما يحس وإن كان يمكن نقلها ولكن التفكير يجري فيها لا في أثرها، ومن هنا كان اتخاذ صفات الشيء وسيلة للحكم على أثره أو للحكم عليه لا يشكل عملية عقلية فلا يجري التفكير فيه. وبعبارة أخرى إن الفروض لا تصلح وسيلة للحكم. لأنها لم يقع الحس عليها. صحيح أن بعض الفروض تكون كمقدمات المنطق مما يقع عليه الإحساس، ولكنه إذا كانت كذلك لا تكون فروضاً بل تكون حقائق. والفرَض هو عبارة عن مجرد تقدير وليس إحساساً، وليس تقديراً ناتجاً عن إحساس. ومن هنا يقع الخطأ في اعتبار الفروض والتخيلات أفكاراً.

قد يقال إن حصر التفكير فيما يقع عليه الحس، أو يقع الحس على أثره، يعني حصر التفكير بالمحسوسات، وهذا يعني أن الطريقة العلمية هي أساس التفكير لأنها لا تؤمن إلا بالمحسوسات، فأين ذهبت الطريقة العقلية؟ والجواب على ذلك أن الطريقة العلمية تشترط إخضاع المحسوسات للتجربة والملاحظة ولا تكتفي بمجرد الحس. ولذلك فإن كون التفكير لا يقع إلا في المحسوسات يشمل المحسوسات التي تخضع للتجربة والملاحظة وتشمل المحسوسات التي يكتفى بوقوع الحس عليها، أي بالإحساس بها. وهذا لا يجعل الطريقة العلمية أساساً للتفكير. وإنما يجعلها عملية تفكير صحيحة لأنها تشترط أن يكون الشيء محسوساً وتزيد على ذلك أنها تشترط أيضاً إخضاعه للتجربة والملاحظة. أما موضوع الطريقة العقلية فإن حصر التفكير بالمحسوس هو ما تقتضيه. فإن الأساس في تعريف العقل ليس وجود معلومات سابقة، بل الأساس هو الواقع المحسوس، والمعلومات السابقة شرط يكون المحسوس قد جرى التفكير فيه، وإلا لظل مجرد إحساس. فالأصل في التفكير أن يكون في واقع محسوس، لا في شيء قد قدر، ولا في شيء جرى تخيل وجوده. ولذلك فإنه حين يقال إن الإنسان الأول قد جرى تفكيره على الوجه الفلاني لا يعتبر تفكيراً، لأن الإنسان الأول ليس واقعاً محسوساً، وإنما الإنسان الحالي هو الواقع المحسوس، فيؤخذ الإنسان الحالي. ويبحث ليعرف كيف يجري تفكيره، ثم ينطبق ما جرى التوصل إليه من نتيجة البحث على جنس الإنسان. لأن الجنس الواحد الذي لا يختلف، أو النوع الواحد الذي يختلف، ينطبق على جنسه وعلى نوعه كل ما ثبت لفرد من أفراده، لأنه جنس واحد ونوع واحد. وذلك كذرة التراب، أو تراب معين، فإن ما يتوصل إليه بشأن هذه الذرة من التراب عن طريق الحس ينطبق على جنسها كله وعلى نوعها كله، سواء أكان حاضراً أم غائباً، وسواء أجرى عليه التفكير أم لم يجر، فالمهم أن يكون الشيء الذي جرى فيه التفكير واقعاً محسوساً بذاته أو محسوساً أثره. ولا يوجد تفكير مطلقاً في أي شيء غير محسوس أو غير محسوس أثره.

وعلى هذا فإنه يجب أن يكون واضحاً أن ما يصدر من أحكام، وما يؤخذ من معلومات، عن غير الواقع، أو عن واقع مفروض وجوده أو متخيل وجوده، لا يعتبر فكراً ولا بوجه من الوجوه، أي لا يعتبر أن العقل قد أنتجه، لأن العقل لا يعمل بدون الواقع المحسوس أو المحسوس أثره. وبالتالي لا يجري التفكير إلا في الواقع أو في أثر الواقع، ولا يجري في غير ذلك مطلقاً. ولهذا فإن كثيراً مما يسمى بأفكار، سواء سجل في الكتب، أو جرى الحديث فيه، لا يعتبر نتاج العقل، ولم يجر التفكير فيه، وبالتالي ليس فكراً.

وهنا قد يرد الحديث عن المغيبات. سواء أكانت مغيبة عن المفكر أو كانت مغيبات عن الحس، فهل اشتغال الدماغ بالمغيبات لا يكون تفكيراً، وبالتالي هل ما قيل في المغيبات لا يكون فكراً؟ والجواب على ذلك أن المغيبات عن المفكر لا تكون مغيبات. بل تعتبر حاضرة، لأن المقصود بنقل الحس، هو أي نقل لأي إنسان، وليس نقل المفكر فقط. فمكة والبيت الحرام حين يفكر فيهما أو في أي منها شخص لم يرهما ولم يحس بهما لا يعني أنه يفكر في غير المحسوس، بل هو يفكر في المحسوس، لأنه ليس المحسوس هو الذي يحسه، بل المحسوس الذي من شأنه أن يكون محسوساً، وما يغيب عن المفكر من المحسوسات يعتبر التفكير بها تفكيراً، واشتغال الدماغ بها يكون تفكيراً. ولهذا فإن التاريخ يعتبر أفكاراً، ولو جرى تسجيله أو الحديث عنه بعد آلاف السنين. وتعتبر المعارف القديمة أفكاراً، واشتغال الدماغ بها يكون تفكيراً ولو جرى بعد آلاف السنين. وتعتبر الأخبار التي تتناقلها البرقيات أفكاراً، واشتغال الدماغ بها يكون تفكيراً ولو جاءت من مسافات بعيدة. فما يغيب عن المفكر لا يكون مغيبات وإنما يكون من المحسوسات، لأن الحس لا يشترط أن يكون لدى المفكر، بل قد ينقل إليه نقلاً، فقد يسمعه وقد يقرؤه، أو يقرأ له. فالموضوع أن المعرفة لا تكون فكراً إلا إذا نتجت عن واقع محسوس. فالواقع المحسوس أو المحسوس أثره هما وحدهما اللذان تكون معرفتهما فكراً، ويكون اشتغال الدماغ بهما تفكيراً. أما ما عداهما فإنه لا يكون فكراً، ولا يكون اشتغال الدماغ به تفكيراً.

أما المغيبات عن الحس، فهي التي تسمى مغيبات، وهي التي تكون موضع السؤال، والجواب عن المغيبات هو أنه ينظر فيها، فإن نقلت أو رويت عن المقطوع بصدق قوله، وكان قد ثبت وجوده بالدليل القاطع، فإنها تعتبر من الفكر، ويكون اشتغال الدماغ بها عملية عقلية، أي يكون تفكيراً. وذلك أن قطعية وجود الناقل أو الراوي ثبتت عن طريق الحس وعن طريق الفكر القطعي، وصدق قوله ثبت عن طريق الحس وعن طريق الفكر القطعي. ولذلك تعتبر أنها في الأصل صادرة عن محسوس هو، أو محسوس أثره، وفوق ذلك فقد ثبت وجود المصدر، وثبت صدقه بالفكر القاطع. ومن أجل ذلك يعتبر فكراً، ويعتبر اشتغال الدماغ به تفكيراً. سواء ثبت النقل أو الرواية بالدليل القطعي، أو بالدليل الظني، لأن القطع إنما يشترط في وجوده وفي صدقه، حتى يعتبر فكراً، ولا يشترط في ثبوت القول، ولكن تشترط صحته ولو بطريق غلبة الظن. فالمغيبات التي تصدر عمن ثبت وجوده وصدقه بالدليل القاطع تعتبر فكراً، ويعتبر اشتغال الدماغ بها تفكيراً، إذا صح صدورها سواء صح بطريق القطع، أو صح بطريق غلبة الظن.

إلا أن ما صح صدوره عن المقطوع بوجوده والمقطوع بصدقه إذا صح بشكل قطعي فكان قطعي الثبوت قطعي الدلالة. فإنه يجب تصديقه تصديقاً جازماً، ولا يصح مجرد الشك به. وإذا صح بشكل غير قاطع بل بشكل ظني، فإنه يجوز تصديقه تصديقاً غير جازم. إلا أن كلاً منهما يكون فكراً، ويكون اشتغال الدماغ به تفكيراً. ومن هنا فإن ما ورد من المغيبات عند المسلمين، سواء ورد في أحاديث الآحاد المقبولة للاستدلال أو ورد في القرآن الكريم، فإنه يعتبر فكراً، ويكون اشتغال الدماغ به تفكيراً.

أما ما ورد عن غير المقطوع بوجوده، وغير المقطوع بصدقه، فإنه لا يكون فكراً، ولا يكون اشتغال الدماغ به تفكيراً. وإنما يكون من قبيل التخيلات أو الفروض، ويكون مجرد تخريف.

وعلى ذلك، لا تعتبر المغيبات من الفكر، ولا يعتبر اشتغال الدماغ بها تفكيراً، إلا إذا صدرت عن المقطوع بوجوده والمقطوع بصدقه بشكل صحيح. هذه الحالة وحدها هي التي تعتبر فيها المغيبات فكراً، ويكون اشتغال الدماغ بها تفكيراً. لأنها مستندة إلى المحسوس من حيث أصلها. لأنها تعتبر أنها صدرت عمن يحسها، أو أخذت عنه من المقطوع بوجوده والمقطوع بصدقه. وما عدا هذه الحالة فإن المغيبات ليست فكراً، وليس اشتغال الدماغ بها تفكيراً، لأنها ليست من المحسوسات. فالتفكير هو اشتغال الدماغ بالمحسوسات، أو المحسوس أثرها، والفكر هو نتيجة هذا الاشتغال، ولا يكون إلا في المحسوسات أو المحسوس أثرها.

أما البحث في الكون والإنسان والحياة، فإنه ليس بحثاً في الطبيعة، لأن الطبيعة أعم من الكون والإنسان والحياة. وليس بحثاً في العالم، لأن العالم كل ما سوى الله. فيشمل الملائكة وبالشياطين، ويشمل الطبيعة، ولذلك فإنا حين نقول إننا نبحث الكون والإنسان والحياة، فإننا لا نعني الطبيعة، ولا بحث العالم، وإنما نعني هذه الثلاثة فحسب. لأن الإنسان يحيا في الكون، فهو لا بد أن يعرف الإنسان، ويعرف الكون، ويعرف الحياة. فهو إذن لا يعنيه أن يبحث الطبيعة، فإن بحثها لا يغنيه عن بحث نوعه وحياته والكون الذي يحيا به، ولا يعنيه بحث ما عدا ذلك من مثل الملائكة والشياطين، لأن بحثها ليس مما يشكل عنده عقدة. فالإنسان يحس نفسه أنه وجد، ويحس الحياة التي فيه، ويحس الكون الذي يحيا فيه، فهو منذ يميز الأمور والأشياء يبدأ يتساءل هل قبل وجوده ووجود أمه وأبيه ومن قبلهما إلى أعلى جد يوجد شيء أم لا، ويتساءل هل هذه الحياة التي فيه والتي في غيره من بني الإنسان يوجد قبلها شيء أم لا. ويتساءل هل هذا الكون الذي يراه من أرض وشمس وما يسمع به من كواكب يوجد قبلها شيء أم لا، أي هل هي أزلية وجدت هكذا من الأزل، أم قبلها شيء أزلي، ثم يتساءل هل هذه الأشياء الثلاثة يوجد بعدها شيء أم لا، أي هل هي أبدية تظل هكذا ولا تفنى أم لا. هذه التساؤلات أو الأسئلة ترد عليه كثيراً، وكلما كبر تزداد هذه التساؤلات، فتكوّن عنده عقدة كبرى يسعى لحلها. فهذا التساؤل أو الأسئلة هي بحث في واقع، أي هي نقل واقع بواسطة الحواس إلى الدماغ، فيظل يحس بهذا الواقع، ولكن ما لديه من معلومات لا تكفي لحل هذه العقدة الكبرى، ويكبر وتزداد المعلومات، ويحاول أكثر من مرة تفسير هذا الواقع بواسطة المعلومات التي لديه، فإن استطاع تفسير هذا الواقع تفسيراً قطعياً لا يعيد هذه التساؤلات، فإنه حينئذ يحل العقدة الكبرى. وإذا لم يستطع تفسير هذا الواقع تفسيراً قاطعاً، فإنه يظل يتساءل، فقد يحلها مؤقتاً، ولكن التساؤلات تعود إليه، فيعرف أنه لم يحلها، وهكذا يوأصل بشكل طبيعي سلسلة التساؤلات حتى يصل إلى الجواب الذي تصدقه فطرته، أي يتجاوب مع الطاقة الحيوية التي لديه، أي يتجاوب مع عاطفته. وحينئذ يوقن بأنه حل العقدة الكبرى حلاً جازماً وتنقطع عنه التساؤلات. وإذا لم تحل لديه هذه العقدة الكبرى فإن التساؤلات تظل تتوارد عليه، وتظل تزعجه، وتظل العقدة الكبرى في نفسه، ويظل في حالة انزعاج، وفي حالة قلق على مصيره، حتى يحصل هذا الحل، سواء أكان حلاً صحيحاً أو حلاً خاطئاً، ما دام يطمئن إليه.

هذا هو التفكير في الكون والإنسان والحياة، وهو تفكير طبيعي، وتفكير حتمي، ولا بد أن يوجد عند كل إنسان، لأن وجوده يقضي بوجود هذا التفكير. لأن إحساسه بهذه الثلاث هو أمر دائم، وهذا الإحساس يدفعه لمحاولة الوصول إلى الفكر. لذلك فإن التفكير في الكون والإنسان والحياة ملازم لوجود الإنسان، لأن مجرد الإحساس بهذه الثلاث الذي هو حتمي، يستدعي المعلومات المتعلقة به الموجودة لديه، أو بمحاولة طلب هذه المعلومات من غيره، أو يحاول طلب الحل من غيره, فهو يدأب بحافز ذاتي لحل هذه العقدة. فحل العقدة الكبرى يلاحق الإنسان بشكل متوأصل، في طلب هذا الحل، إلا أن الناس، على حتمية تساؤلهم، وحتمية القيام بمحأولاًت متعددة ومتلاحقة في الوصول إلى الإجابة، أي في الوصول إلى حل العقدة الكبرى فإنهم يختلفون في الاستجابة لهذه الملاحقة، فمنهم من يهرب من هذه الأسئلة، ومنهم من يوأصل طلب الإجابة عنها. أما وهم صغار دون سن البلوغ فإنهم يتلقون الإجابة عن أسئلتهم من آبائهم. فهم يولدون خالين من هذه الأسئلة، ولكن حين يبدأون يميزون ما حولهم تبدأ هذه الأسئلة ترد عليهم، فيتولى آباؤهم الإجابة عليها، ونظراً لثقتهم بآبائهم أو من يتولى شؤونهم يسلمون بالأجوبة تسليماً ويطمئنون لهذا التسليم لأنه تسليم لمن يثقون به. فإذا ما بلغوا سن الرجولة، أي بلغوا الحلم، فإن الأكثرية الساحقة منهم تظل عند حد الإجابة التي تلقوها، والأٌقلية هي تعود لها هذه التساؤلات لعدم اطمئنانها للأجوبة التي تلقوها وهم صغار. ولذلك تعيد النظر فيما تلقوها من حل هذه العقدة الكبرى، ويحاولون حلها بأنفسهم.

فالتفكير في حل العقدة الكبرى، أي التفكير في الكون والإنسان والحياة، أمر حتمي لكل إنسان، إلا أن منهم من يحلها بنفسه، ومنهم من يتلقى حلها، ومتى حلت، على أي وجه، فإن هذا الحل، سواء أكان حلاً قد جاء عن طريق التلقي، أو كان حلاً وصل إليه بنفسه فإنه إن تجاوب هذا الحل مع الفطرة واطمأن إليه فإنه يرتاح ويحس بسعادة الطمأنينة. وإن لم يتجاوب هذا الحل مع الفطرة، فإنه لا يطمئن إلى الحل، وتظل التساؤلات تلاحقه وتزعجه ولو لم يفصح عن ذلك بأية إشارة. ولذلك لا بد من التفكير في حل العقدة الكبرى للإنسان، حلاً يتجاوب مع الفطرة.

نعم إن التفكير بحل العقدة الكبرى طبيعي وحتمي، ولكن هذا التفكير نفسه قد يكون تفكيراً صحيحاً، وقد يكون تفكيراً سقيماً، وقد يكون تفكيراً في الهروب من التفكير، ولكنه على أي حال تفكير حسب الطريقة العقلية. فالذين يرجعون الإنسان والكون والحياة إلى أنها مادة، وينتقلون إلى البحث في المادة يهربون من التفكير بالإنسان والكون والحياة إلى التفكير بالمادة، وهذا التفكير بالمادة باعتباره هروباً من التفكير الطبيعي والحتمي، يجرهم إلى السقم في التفكير. فالمادة تخضع للمختبر، ولكن الإنسان والكون والحياة لا تخضع للمختبر، والتساؤلات التي ترد تحتاج إلى تفكير عقلي، وهم ينتقلون إلى التفكير العلمي. ولذلك يستحيل أن يأتوا بالحل الصحيح وبذلك يأتون بالحل المغلوط. فيحلون العقدة الكبرى، ولكن حلاً خاطئاً لا تتجاوب معه الفطرة، ومن هنا يظل هذا الحل حلاً لأفراد لا حلاً لشعب أو أمة. فيبقى الشعب أو الأمة دو أن تحل لديها العقدة الكبرى حلاً يتجاوب مع فطرتها، وتظل التساؤلات تلاحق الناس، وحتى تلاحق كثيراً من الأفراد الذين ارتضوا هذا الحل.

أما الذين يرون أن هذه العقدة الكبرى فردية، ولا تعني الشعب بوصفه شعباً، ولا تعني الأمة بوصفها أمة، ولا دخل لها في أمور العيش، فإنهم يهربون من حل العقدة الكبرى، ويتركون الأفراد وشأنهم، والشعب وشأنه، أو الأمة وشأنها. ولذلك تظل العقدة الكبرى تلاحق الأفراد، وتلاحق الشعب أو الأمة، وتزعج الأفراد والجماعات، ويعيش الجميع في حالة اطمئنان كاذب لحل هذه العقدة الكبرى، لأنها في الحقيقة ظلت بدون حل، وظل الإزعاج النفسي أو الفطري مسيطراً على الأفراد وعلى الشعب أو الأمة.

والحقيقة أن مسألة حل العقدة الكبرى فيها ناحيتان إحداهما الناحية العقلية، أي المتعلقة بالعقل، أي في نفس التفكير الذي يجري. والثانية متعلقة بالطاقة الحيوية التي في الإنسان، أي بما يتطلب الإشباع، فالتفكير يجب أن يتوصل إلى إشباع الطاقة الحيوية. وإشباع الطاقة الحيوية بالفكر، يجب أن يأتي عن التفكير، أي يجب أن يأتي عن نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ. فإذا الإشباع بالتخيلات أو الفروض، أو بغير ما هو واقع محسوس، فإن الطمأنينة لا تحصل، والحل لا يوجد. وإذا جاء التفكير بما لا يوجد الإشباع، أي بما لا يتفق مع الفطرة، فإنه يكون مجرد فروض أو مجرد إحساس، فلا يوصل إلى حل تطمئن إليه النفس، ويوجد الإشباع.

فحتى يكون الحل حلاً صحيحاً للعقدة الكبرى، يجب أن يكون نتيجة تفكير حسب الطريقة العقلية، وأن يشبع الطاقة الحيوية، وأن يكون جازماً بحيث لا يترك مجالاً لعودة التساؤلات. وبهذا يوجد الحل الصحيح، ويوجد الاطمئنان الدائم لهذا الحل. ومن هنا كان من أهم أنواع التفكير، التفكير بالكون والإنسان والحياة. أي التفكير بحل العقدة الكبرى حلاً يتجاوب مع الفطرة، أي يحصل به إشباع الطاقة الحيوية، ويكون جازماً يحول دون رجوع هذه التساؤلات.

نعم إن محاولة الطاقة الحيوية إشباع ما يتطلب الإشباع، قد ترشد إلى حل العقدة الكبرى، فإن الشعور بالعجز والحاجة إلى قوة تعينه قد يؤدي إلى حل هذه العقدة، ويملي أجوبة التساؤلات. ولكن هذا الطريق غير مأمون العواقب، وغير موصل إلى تركيز إذا ترك وحده. فغريزة التدين قد توجد في الدماغ تخيلات أو فروضاً لا تمت إلى الحقيقة بصلة. وهي وإن أشبعت الطاقة الحيوية، ولكنها قد تشبعها إشباعاً شاذاً كعبادة الأصنام، أو تشبعها إشباعاً خاطئاً كتقديس الأولياء. ولذلك لا يصح أن يترك للطاقة الحيوية أن تحل العقدة الكبرى وتجيب على التساؤلات بل لا بد أن يجري التفكير في الإنسان والكون والحياة للإجابة عن التساؤلات. إلا أن هذه الإجابة يجب أن تتجاوب مع الفطرة، أي يجب أن يتم بها إشباع الطاقة الحيوية وأن تكون بشكل جازم لا يتطرق إليه شك. وإذا حصل هذا الحل بالتفكير الذي تتجاوب معه الفطرة، فإنه حينئذ يكون حلاً يملأ العقل قناعة والقلب طمأنينة.

أما التفكير في العيش، فإن إشباع الطاقة الحيوية، أي إشباع الحاجات العضوية كالأكل، وإشباع الغرائز كالتملك يتطلب أن يوجد لدى الإنسان تفكير في العيش، فهو تفكير طبيعي وحتمي. إلا أن التفكير بالعيش هكذا لمجرد العيش لا يكفي للإنسان للنهضة، ولا يكفي للإنسان لنيل السعادة، أي لنيل الطمأنينة الدائمة. ولذلك فإنه من أجل أن ينهض الإنسان، ومن أجل أن ينال السعادة أي الطمأنينة الدائمة، لا بد أن يجعل تفكيره في العيش مبنياً على أساس تفكيره في وجهة نظره في الحياة. فهو إنسان يحيا في الكون، وعيشه في هذا الكون يعني حياته في الكون، ولذلك لا بد أن يكون تفكيره في العيش مبنياً على نظرته لهذه الحياة الدنيا التي يحياها. وبدون بناء تفكيره في العيش على نظرته لهذه الحياة الدنيا، يبقى تفكيره منحطاً، ومحدوداً، وضيقاً، فلا يتمتع بنهضة، ولا يحصل على الطمأنينة الدائمة. ولذلك لا بد أن يكون التفكير في الكون والإنسان والحياة أساساً للتفكير في العيش. صحيح أن الإنسان يفكر في العيش استجابة لطلب الإشباع، سواء أكانت لديه نظرة للكون والإنسان والحياة أم لم تكن. ولكن هذا التفكير يظل بدائياً، ويظل قلقاً، وغير سائر في الطريق التصاعدي، حتى يبنى على التفكير في الإنسان والكون والحياة، أي حتى يبنى على نظرته للحياة. فالموضوع ليس أي التفكيرين يسبق، فإنه معروف بداهة أن التفكير في العيش يسبق كل تفكير، بل الموضوع هو التفكير في العيش الراقي، العيش الذي تكون فيه الطمأنينة الدائمة، ولذلك لا بد أن يبنى التفكير في العيش على النظرة إلى الحياة.

صحيح أن التفكير بالعيش يرتقي من التفكير بعيش نفسه إلى التفكير بعيش عائلته وعشيرته، ويرتقي من التفكير بعيش نفسه إلى التفكير بعيش قومه، ويرتقي من التفكير بعيش قومه إلى التفكير بعيش أمته، ويرتقي من التفكير بعيش أمته إلى التفكير بعيش الإنسانية. ولكن هذا الارتقاء وإن كان موجوداً في فطرة الإنسان، ولكنه إذا ترك وحده بدون أن يجعل له أساس يبنى عليه فإنه قد يحصر بالتفكير بعيش نفسه ولا يتعداه إلا إذا كان متعلقاً بعيش نفسه، كأن يتعداه، إلى التفكير بعيش عائلته وعشيرته. أو يتعدى ذلك إلى التفكير بعيش قومه وأمته. ولكنه يظل تفكيراً بعيش نفسه، فتبقى فيه الأنانية متحكمة، ويظل الانحطاط بارزاً في تصرفاته، أو مظهراً من مظاهر حياته. ولا يتعدى ذلك إلى النهضة، ولا إلى الاطمئنان الدائم. ولهذا فإن ترك التفكير بالعيش هكذا على طبيعته، دون أن يبنى على نظرة في الحياة، لا يصح أن يستمر وأن يبقى، لأنه لا يوصل إلى النهضة، ولا إلى الطمأنينة الدائمة، بل يحول دون الطمأنينة الدائمة، والعيش البدائي، أو عيش الشعوب المنحطة هو خير دليل على ذلك.

إن التفكير بالعيش لا يعني التفكير بإشباع الطاقة الحيوية إشباعاً آنياً أو كيفما اتفق، ولا إشباع الذات وحدها أو العائلة وحدها، أو القوم والأمة وحدهم. فإنه إنسان يحيا في الكون، فلا بد أن يكون التفكير بالعيش أن يكون عيشاً مستمراً، وأن يكون عيشاً على أرقى وجه مستطاع، وأن يكون لعيش الإنسان من حيث هو إنسان، بما تقتضيه غريزة بقاء النوع الإنساني. وهذا لا يمكن أن يتأتى بجعل التفكير في العيش دون بنائه على نظرة معينة للحياة. لأنه إذا بقي كذلك، ظل تفكيراً بدائياً وظل تفكيراً يتسم بالانحطاط.

وعلى أي حال، سواء بني التفكير بالعيش على النظرة في الحياة أو لم يبن، فإن أهم ما يجب أن يكون فيه، أن يكون تفكيراً مسؤولاً، تقصد فيه الغاية منه، والغاية من العيش. وإن أهم ما يجب أن يلاحظ فيه، المسؤولية عن الغير. المسؤولية عمن تقتضي الفطرة المسؤولية عنهم، وعمن تقتضي الحمايةُ المسؤوليةَ عمن تحصل بهم الحمايةُ. فرأس العائلة كالأب، مثل الزوجة والأولاًد، ورأس العشيرة كالزعيم، مثل أي فرد من أفراد العشيرة. كل منهم، الأب والزوجة والأولاًد، والزعيم وكل فرد من أفراد العشيرة، يجب أن يقصد الغاية التي يفكر فيها بالعيش، والغاية نفسها من العيش، ويلاحظ المسؤولية عن الغير. فالتفكير المسؤول في العيش، لا بد أن يكون هو طابع التفكير بالعيش، حتى يتأتى أن يكون تفكيراً بالعيش، لأن التفكير غير المسؤول، في موضوع العيش، لا يزيد عن التمييز الغريزي لدى الحيوان في إشباع الطاقة الحيوية، وهو لا يليق بالإنسان، ولا يصح أن يظل هو تفكير الإنسان.

إن اشتراط أن يكون التفكير بالعيش تفكيراً مسؤولاً، هو أدنى ما يجب اشتراطه، لأنه رغم كونه لا يكفي للنهضة، ورغم أنه لا يكفي للطمأنينة الدائمة، ولكنه أدنى ما يجب أن يكون لرفع مستوى الإنسان عن رتبة الحيوان، ولجعله تفكير إنسان له دماغ متميز بالربط، وليس مجرد حيوان لا يتطلب سوى إشباع الطاقة.

إن التفكير بالعيش هو الذي يصوغ الحياة للفرد، وهو الذي يصوغ الحياة للعائلة والعشيرة، وهو الذي يصوغ الحياة للقوم، وهو الذي يصوغ الحياة للأمة، وهو فوق كل ذلك يصوغ الحياة للإنسانية، صياغة معينة، فيجعلها شكل قرد أو خنزير، ويجعلها من ذهب أو من قصدير، أي يجعلها حياة عز ورفاهية وطمأنينة دائمة، أو يجعلها حياة شقاء وتعاسة وركض وراء الرغيف. ونظرة واحدة للتفكير الرأسمالي بالعيش، وما صاغ به الحياة للإنسانية كلها من صياغة معينة، تُري ما جلبت هذه الصياغة لحياة الإنسانية كلها من تعاسة وشقاء وجعل الإنسان بقضي حياته كلها يركض وراء الرغيف. وكيف جعلت العلاقات بين الناس علاقات خصام دائم، هي علاقة الرغيف بيني وبينك آكله أنا أو تأكله أنت، فيستمر بيننا الصراع حتى ينال أحدنا الرغيف ويحرم الآخر، أو يعطي أحدنا ما يبقيه على الحياة ليوفر باقي الرغيف للآخر ويزيد خبزه. فنظرة واحدة لهذه الصياغة التي صاغها التفكير الرأسمالي للحياة، تُري كيف جعلت الحياة الدنيا دار شقاء وتعاسة، ودار خصام دائم بين الناس. ذلك أن التفكير الرأسمالي بالعيش، وإن كان قد بناه على فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، أي وإن كان بناه على نظرة معينة في الحياة، فإنه وإن حقق نهضة للشعوب والأمم التي سارت على هذا التفكير بالعيش، فإنه أشقى تلك الشعوب والأمم، وأشقى الإنسانية بأجمعها. فهو الذي أوجد فكرة الاستعمار والاستغلال، وهو الذي أتاح لأفراد أن يعيشوا في مستوى هيأ لهم أن يأخذوا الرسائل التي تأتيهم على طبق من ذهب يقدمه إليهم الخدم، أي العبيد، وحرم أفراداً حتى من أن يكونوا خدماً أو عبيداً لأبناء عائلاتهم أو عشيرتهم أو أمتهم، يستطيعون أن ينعموا بفضلات العيش. وفي أمريكا الغنية، وإنجلترا التي تحلم بالإمبراطورية، وفرنسا التي يسبح خيالها بالعظمة والمجد، نماذج عديدة من هذه الحياة، فضلاً عما فعلته فكرة الاستعمار والاستغلال في غير أروبا وأمريكا من استعباد ومص دماء. وكل هذا إنما كان، لأن التفكير بالعيش ليس تفكيراً مسؤولاً، أي ليس تفكيراً فيه المسؤولية عن الغير، وإنما هو خال من المسؤولية الحقيقية، حتى وإن كانت تظهر فيه المسؤولية عن العائلة أو العشيرة أو القوم أو الأمة، ولكنه في حقيقته خال من المسؤولية، لأنه ليس فيه إلا ما يضمن الإشباع.

والفكرة الاشتراكية وإن جاءت لتوجد المسؤولية في التفكير بالعيش، لتوجدها مسؤولية عن الفقراء والكادحين، ولكنها وقد عجزت عن الصمود أمام الحياة، انحرفت مع الزمن، حتى غدت اسماً أو شبحاً، وأخذت تخلو تدريجياً من المسؤولية عن الغير، حتى صارت فعلاً تفكيراً بالعيش، لا يختلف عن التفكير الرأسمالي، في الخلو من المسؤولية عن الغير، وصارت في واقعها فكرة قومية أكثر منها فكرة إنسانية.

وعلى هذا فإن العالم، وإن كان فيه التفكير في العيش مبنياً على نظرة للحياة لدى كل من أروبا وأمريكا وروسيا وهي الدول التي تصوغ الحياة في العالم. فإن التفكير في العيش الموجود في العالم يعتبر حقيقة أنه خال من المسؤولية عن الغير. إن المرء قد يفهم أن خلو التفكير بالعيش من المسؤولية عن الغير، قد يوجد طبيعياً في الإنسان المنحط ولكنه لا يفهم كيف يجعل استعباد الغير واستغلاله لإشباع حاجات الذات يحل محل المسؤولية عن الغير. ولهذا فإنه رغم مظاهر النهضة والتقدم الموجودة في العالم اليوم ولكن خلو التفكير بالعيش لدى الناس ولا سيما الأقوياء القادرين على تحصيل العيش، من المسؤولية عن الغير يجعل العاقل المبصر يدرك أن العالم في تفكيره بالعيش منحط وليس متقدماً، وقلق وليس بمطمئن ويعتبر أن بقاء هذا التفكير بالعيش الخالي من المسؤولية عن الغير أمر مضر بالحياة. ومجلبة للشقاء للإنسان. ولذلك لا بد من القضاء على هذا التفكير والعمل لأن يحل محله تفكير بالعيش تكون المسؤولية عن الغير جزءاً لا يتجزأ منه.


صحيح أن الرغيف هو العلاقة بين الإنسان والإنسان، وصحيح أن التفكير بالعيش هو التفكير بالحصول على هذا الرغيف لإشباع الطاقة الحيوية التي تدفع الإنسان للإشباع. ولكن بدل أن تكون العلاقة بالرغيف بين الإنسان والإنسان، هي أن آكله انا أو تأكله أنت تكون، هذه العلاقة بالرغيف تأكله أنت لا أنا، فأنا احصل الرغيف لأطعمك أياه وأنت تحصل الرغيف لتطعمني إياه، لا أن اخاصمك لأخذه وتخاصمني لأخذه، أي أن تكون علاقة إيثار لا علاقة أثرة. أي أن تفرح بالعطاء لا بالاستغلال، وأن أفرح بالعطاء لا بالاستغلال. ولله در الشاعرالعربي حين يقول:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أي إن الإنسان وإن كان يفرح بأن يأخذ، استجابة لغريزة البقاء ولكنه حين يرتقي يصبح يفرح لأن يعطي كما يفرح حين يأخذ وكذلك استجابة لغريزة البقاء، وهو مظهر الكرم والإعطاء، فإنه كمظهر الملكية والأخذ كل منهما مظهر من مظاهر غريزة البقاء.

فالموضوع ليس فيه جعل التفكير بالعيش تفكيراً بالغير، لأن التفكير بالعيش هو تفكير بإشباع الطاقة الحيوية للإنسان الذي يفكر فلا بد أن يكون متجاوباً مع الإشباع حتى يكون تفكيراً صحيحاً، وإنما الموضوع هو أن تكون في هذا التفكير المسؤولية عن الغير، لا أن يكون تفكيراً بإشباع الغير. فهو لا يفكر بالعيش ليشبع الطاقة الحيوية لدى الغير، بل يفكر بالعيش لإشباع الطاقة الحيوية لديه، ولكنه حين يفكر تفكيراً مسؤولاً، أي حين يكون تفكيره متصفاً بصفة المسؤولية عن الغير؛ فإنه بدل أن يشبع مظهر الملكية، يشبع مظهر الكرم، وبدل أن يشبع مظهر الخوف يشبع مظهر الثناء. وفي كلتا الحالتين هو يشبع الطاقة الحيوية لديه في إشباع غريزة البقاء، ولكنه اختار إشباع المظهر الأرقى على المظهر المنحط. هذا هو الموضوع في جعل التفكير بالعيش تفكيراً مسؤولاً. فإن المسؤولية عن الغير في التفكير بالعيش هي التي تجعله تفكيراً بالعيش يعطي العيش الراقي والعيش الهنيء.

أما التفكير في الحقائق فإنه وإن كان لا يختلف عن التفكير في أي شيء، لأن الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع، ولكن لما كان للحقائق وزن ولا سيما الحقائق غير المادية، فإنه لا بد من بيان هذا النوع من التفكير باعتباره يختلف عن التفكير في أي شيء غيره. والتفكير بالحقائق هو جعل الحكم الذي يصدر منطبقاً تمام الانطباق على الواقع الذي نقل إلى الدماغ بواسطة الإحساس، وهذه المطابقة هي التي تجعل ما يدل عليه الفكر حقيقة، وهي إذا كانت حقيقة تتجاوب مع الفطرة تجاوباً طبيعياً. فمثلاً: كون المجتمع هو عبارة عن علاقات وناس فيكون هذا واقعه. فحين يجري الحكم على المجتمع ما هو، فإن كل الأحكام على واقعه قد جرت على الطريقة العقلية، وهي فكر ولكن كون هذا الفكر حقيقة أو ليس بحقيقة راجع إلى انطباق هذا الفكر حقيقة. فالذين قالوا إن المجتمع عبارة عن مجموعة أفراد، فإنهم رأوا أن الجماعة مكونة من أفراد وأن المجتمع لا يتأتى أن يكون إلا إذا وجد مجموعة أفراد فنقل هذا الواقع إلى دماغهم بواسطة الحواس وفسروه بواسطة المعلومات السابقة فأصدروا حكمهم بأن المجتمع هو مجموعة أفراد. فهذا الحكم فكر ولكن مطابقته للواقع وعدم مطابقته هو الذي يدل على أنه حقيقة أم لا. فعند تطبيقه على الواقع يشاهد أن الجماعة في باخرة مهما بلغ عددهم لا يكونون مجتمعاً وإنما يكونون جماعة مع أنهم مجموعة أفراد في حين أن الجماعة الذين يعيشون في قرية مهما بلغ عددهم يكونون مجتمعاً. فالذي جعل القرية مجتمعاً ولم يجعل الباخرة مجتمعاً، إنما هو وجود العلاقات الدائمة بين سكان القرية وعدم وجود العلاقات الدائمة بين ركاب الباخرة. فإذن، فالذي يكون المجتمع هو العلاقات بين الناس وليس مجموعة الناس. وبذلك يتبين أن هذا التعريف للمجتمع وإن كان فكراً ولكنه ليس حقيقة، وهذا يعني أنه ليس كل فكر حقيقة بل لا بد أن يكون هذا الفكر منطبقاً على الواقع الذي صدر الحكم عليه.

ومثلاً كون الديانة النصرانية فكراً، صحيح. فقد نقل الحس أن الآب والابن وروح القدس هي واحد فالثلاثة واحد، والواحد ثلاثة، فالشمس فيها الضوء والحرارة وجرم الشمس فكلها شيء واحد وهي ثلاثة، فكذلك الإله هو الآب والابن وروح القدس، وقد تجاوب الاعتقاد بالإله مع الفطرة أي مع غريزة التدين فكان فكراً ولكن مطابقته للواقع وعدم مطابقته للواقع هو الذي يدل على أنه حقيقة. وعند تطبيقه على الواقع يشاهد أن الثلاثة ليست واحداً ولا الواحد ثلاثة، فالثلاثة ثلاثة والواحد واحد. أما الشمس فإن كون لها ضوء ولها حرارة، لا يدل على أنها ثلاثة بل هي واحد هو الشمس، والضوء خاصة من خواصها وليس شيئاً ثانياً، والحرارة خاصة من خواصها وليست أمرا ثالثاً، وكون هذا تجاوب مع الفطرة لا قيمة له لأن غريزة التدين تتطلب الإشباع فقد يجري إشباعها بشكل خاطىء أو شاذ وقد يجري إشباعها بشكل صحيح. واثبات كون الإله واحداً أم ثلاثة إنما يأتي عن طريق العقل لا عن طريق الفطرة وإن كان شرطه أن يتجاوب هذا التفكير العقلي مع الفطرة. وعليه يكون هذا الفكر غير منطبق على واقع الإله فلا يكون حقيقة، فالديانة النصرانية ليست حقيقة.

ومثلاً كون المادة تتطور من ذاتها ويجري بذلك الخلق والإيجاد وأن هذا فكر أمر صحيح. فقد نقل الواقع أن المادة تتحول من حال إلى حال بواسطة قوانين ثابتة. ويحصل بهذا التحول إيجاد أشياء جديدة لم تكن فيكون هذا خلقاً وإيجاداً. ولكن انطباق هذا على الواقع هو الذي يدل على أنه حقيقة أو ليس بحقيقة. وعند تطبيقه على الواقع يشاهد أن هذه المادة لم توجد أشياء من عدم، بل من شيء موجود وأن القوانين مفروضة عليها فرضاً فهي لا تستطيع أن تخرج على هذه القوانين. فلا يكون عملها خلقاً ولا تكون هي خالقة. فيكون هذا الفكر غير منطبق على واقع الخالق، ولا على واقع الخلق فلا يكون حقيقة. وهكذا جميع الأفكار الموجودة في الدنيا والتي توجد، لا يعني كونها فكراً أنها حقيقة، بل لا بد أن ينطبق الفكر على الواقع حتى يكون حقيقة. ولأجل معرفة أن الفكر حقيقة أم لا، لا بد من تطبيق هذا الفكر على الواقع الذي يدل عليه، فإن انطبق عليه كان حقيقة وإن لم ينطبق عليه لم يكن حقيقة. فالتفكير بالحقائق لا يعني القيام بالعملية العقلية فحسب بل يعني القيام بالعملية العقلية، وتطبيق الفكر الذي نتج عن العملية العقلية على الواقع الذي يدل عليه، فإن انطبق عليه كان حقيقة، وإن لم ينطبق عليه لم يكن حقيقة. ولا يقال إن هناك أشياء لا يمكن معرفة انطباق الواقع عليها لأنها لا تحس، لا يقال ذلك لأن شرط التفكير الإحساس بالواقع فما لم يكن واقعاً يحس لا يكون فكراً وبالتالي لا يكون حقيقة. فالله مثلاً، ليس فكرة وإنما هو حقيقة، فإن الحس قد نقل أثره، وهو المخلوقات من عدم إلى الدماغ بواسطة الحواس وهذا جعلنا نحكم على وجوده. فوجود الله حقيقة. أما ذات الله فإنها لا تقع تحت الحس ولذلك لا نستطيع الحكم عليها. فلا يوجد شيء من الحقائق التي توصل أو يتوصل إليه العقل، إلا ويقع عليه الحس. فالحقيقة لا بد أن يقع عليها الحس ولا بد أن يجري التفكير بها عن طريق العقل.
فالتفكير بالحقيقة هو تطبيق الفكر على الواقع الذي يدل عليه فإن انطبق عليه كان حقيقة، وإن لم ينطبق عليه لم يكن حقيقة. والتفكير بالحقيقة أمر لا بد منه للناس جميعاً من أفراد وشعوب وأمم، ولا سيما من يتحملون مسؤوليات مهما كانت صغيرة لأن الأفكار كثيراً ما تكون سببا للخطأ، وسببا للضلال فلا يصح أخذ الفكر أي فكر على أنه حقيقة بل يؤخذ على أنه فكر فقط ثم يجري تطبيقه على الواقع الذي يدل عليه فإن انطبق عليه كان حقيقة، وإلا لم يكن حقيقة وإن كان فكراً. فالتفكير بالحقيقة سواء أكان ابتداءً مثل القيام بالعملية العقلية للوصول إلى الفكر ثم تطبيق هذا الفكر على الواقع حتى ينطبق عليه فإذا انطبق عليه كان حقيقة وإلا فيجب أن يجري البحث عن الحقيقة، أي عن الفكر الذي ينطبق على الواقع الذي يدل عليه أو لم يكن ابتداءً وإنما كان عن طريق أخذ الأفكار الموجودة والبحث عن الحقائق منها. مثل القيام بتطبيق الأفكار الموجودة على الواقع، للوصول إلى الحقيقة.

وهنا لا بد من لفت النظر إلى أمرين: أحدهما المغالطات التي تحصل في الحقائق، والثاني المغالطات التي تصرف عن الوصول إلى الحقائق. أما المغالطات التي تحصل عن الحقائق، فإنها تحصل من جراء التشابه الذي يحصل بين الحقائق أو الأفكار فيتخذ هذا التشابه أداة لطمس الحقائق، أو يكون باستعمال حقيقة من الحقائق لطمس حقيقة أخرى، أو يكون بالتشكيك في حقيقة من الحقائق، من أنها ليست حقيقة أو كانت حقيقة في ظرف وتغير هذا الظرف، إلى غير ذلك من الأساليب. فمثلاً كون اليهود أعداء للمسلمين حقيقة وكون اليهود أعداء لأهل ما يسمى فلسطين حقيقة، وهاتان حقيقتان متشابهتان أو متداخلتان ولكن المغالطة جعلت حقيقة العداء بين اليهود وأهل فلسطين هي البارزة بل هي الملاحظة فاتخذ هذا التشابه أو التداخل أداة لطمس حقيقة العداء بين اليهود والمسلمين. وكون فكر أن الحرية موجودة عند أمريكا حقيقة وكون فكر أن أمريكا إنما يختار رؤساءها، الرأسماليون حقيقة وهما فكران متشابهان من حيث إن كلاً منهما يدل على واقع أمريكا. ولكن اتخذت حقيقة الحرية أداة لطمس حقيقة كون الرأسماليين هم الذين يختارون رؤساء أمريكا. فطمست هذه الحقيقة وصار المعروف أن الذي ينجح رئيساً في أمريكا هو من له شعبية أكثر. ومثلاً كون إنجلترا ضد الوحدة الأروبية حقيقة وكون إنجلترا تريد تقوية نفسها بأروبا الموحدة حقيقة. فاتخذت الحقيقة الثانية أداة لطمس الحقيقة الأولى، وبذلك دخلت إنجلترا السوق المشتركة. ومثلاً كون الإسلام قوة لا تغلب حقيقة ولكن جرى التشكيك في هذه الحقيقة حتى أصبح الرأي بأن هذا ليس حقيقة أو كان حقيقة في أول الإسلام ثم تغير الزمن فلم تعد حقيقة. وهكذا تجري المغالطات في الحقائق فتطمس إما بحقائق أخرى أو بالتشكيك في تلك الحقائق. وهذا ما حذق فعله الغرب في الحقائق الموجودة عند المسلمين.

وأما المغالطات التي تصرف عن الحقائق فإنها تحصل بإيجاد أعمال تصرف عن الحقائق أو إيجاد أفكار تصرف عن الحقائق. فمثلاً كون الأمة لا تنهض إلا بالفكر حقيقة، ولكن لصرف المسلمين عن الفكر شجعت الأعمال المادية من مظاهرات واضطرابات وثورات لصرف الناس عن الفكر، وانشغالهم بالعمل، فطمست حقيقة أن الأمة لا تنهض إلا بالفكر وحل محلها أن الأمة لا تنهض إلا بالثورة. وكذلك لصرف المسلمين عن حقيقة النهضة وجدت أفكار أن النهضة تكون بالأخلاق وأن النهضة تكون بالعبادات وأن النهضة تكون بالاقتصاد إلى غير ذلك من الأفكار. وهكذا تجري المغالطات لصرف الناس عن الوصول إلى الحقائق.

ولذلك لا بد من الانتباه للمغالطات ولا بد من التمسك بالحقائق والقبض على الحقيقة بيد من حديد، ولا بد من العمق في الفكر والإخلاص في التفكير للوصول إلى الحقائق. ومن أخطر ما يحصل لعدم الانتفاع بالحقائق هو إهمال حقائق التاريخ، ولا سيما الحقائق الأساسية فيه، وذلك أن التاريخ فيه حقائق ثابتة لا تتغير وفيه آراء وليدة ظروف، فالآراء التي هي وليدة ظروف ليست حقائق وإنما هي حوادث فلا يصح أن ينتفع بها ولا يصح أن تطبق في ظروف مختلفة عن ظروفها. ولكن الواقع أنه قد جعل النظر إلى التاريخ كله نظرة واحدة وأهملت حقائق التاريخ. ولم يميز بين الحقائق والوقائع، ولذلك لم يلتفت للحقائق. فمثلاً كون الغربيين اتخذوا الساحل الشرقي وخاصة سواحل مصر وبلاد الشام لغزو الدولة الإسلامية حقيقة ولكن انتصار الغربيين على المسلمين حادث تاريخي وليس حقيقة. فاختلطت الحوادث بالحقائق، وأهملت فيه الحقائق حتى تنوسي كون الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ثغرة منها ينفذ العدو إلى داخل بلاد الإسلام. ومثلاً كون فكرة القومية هي التي زعزعت كيان الدولة العثمانية وكون المسلمين حاربوا الغرب كعثمانيين مسلمين، لا كمسلمين فحسب حقيقة. ولكن انهزام العثمانيين في أروبا ثم انهزامهم في الحرب العالمية الثانية حدث من أحداث التاريخ، ولكن جعل النظر إلى تاريخ الحروب بين العثمانيين والأروبيين، وتاريخ الحرب العالمية الأولى كله نظرة واحدة وأهملت الحقائق في هذه الحروب أي أهملت حقائق التاريخ. فاختلطت الحقائق بالحوادث، واهملت الحقائق حتى تنوسي كون الفكرة القومية هي سبب الانهزام للعثمانيين في أروبا وفي الحرب العالمية الأولى. وهكذا جميع حوادث التاريخ قد جرى فيها إهمال الحقائق، فلم ينتفع بحقائق التاريخ، مع أن حقائق التاريخ هي أغلى ما لدى الإنسان، وأعلى أنواع الأفكار.

فالتفكير بالحقائق سواء بالوصول إليها أو بتميزها من غير الحقائق، أو بالقبض عليها بيد من حديد والانتفاع بهذه الحقائق هو التفكير المجدي والتفكير الذي يكون له آثار هائلة في حياة الأفراد والشعوب والأمم. وما فائدة التفكير إذا لم يؤخذ للعمل به وإذا لم يقبض على الحقائق ويتمسك بها وإذا لم يميز بين الحقيقة وغير الحقيقة؟

على أن الحقائق هي أمر قطعي وهي ثابتة لا تتغير وهي يقينية قطعية، لا يؤثر فيها اختلاف الظروف ولا تغير الأحوال. صحيح أن الفكر لا يصح تجريده من ظروفه ومن الأحوال التي تكتنفه ولا يقاس عليه قياساً شمولياً، ولكن هذا هو الفكر من حيث هو فكر إذا لم يكن حقيقة. أما إذا كان الفكر حقيقة، فإنه لا يصح أن ينظر فيه إلى الظروف والأحوال مهما تغيرت أو تبدلت. بل يجب أن يؤخذ كما هو بغض النظر عن الظروف والأحوال. لا سيما وأن الحقائق لا تؤخذ بالطريقة العلمية التي هي طريقة ظنية، بل تؤخذ بالطريقة العقلية وبالجانب اليقيني منها. لأنها أي الحقائق تتعلق بالوجود، لا بالكنه ولا بالصفات. فإن انطباق الفكر على الواقع الذي يدل عليه يجب أن يكون انطباقاً يقينياً حتى يكون حقيقة. لذلك لا بد من التفكير بالحقائق ولا بد من القبض على الحقائق بيد من حديد.

وأما التفكير بالأساليب فهو التفكير بالكيفية غير الدائمة التي بها يقام بالعمل، والأسلوب يقرره نوع العمل، ولذلك يختلف الأسلوب باختلاف نوع العمل، صحيح أن الأساليب قد تتشابه، وأن الأسلوب الواحد قد ينفع في عدة أعمال، ولكن عند التفكير بالأسلوب يجب أن يفكر في نوع العمل الذي يراد استخدام الأسلوب للقيام به، حتى لو تشابهت الأساليب وحتى لو كان الأسلوب المعروف ينفع في هذا العمل الجديد، فلا بد من التفكير في نوع العمل عند التفكير بالأسلوب الذي يراد له بغض النظر عن تشابه الأساليب وعن وجود أساليب تنفع لهذا العمل. لأن التشابه قد يضلل عن الأسلوب الفعال، ولأن كون هناك أسلوب ينفع في هذا العمل قد يسبب عرقلة القيام بالعمل فمثلاً أسلوب الدعاية لفكرة يتشابه مع أسلوب الدعوة لهذه الفكرة كل منهما يعتمد على عرض الفكرة على الناس ولكن هذا التشابه قد يضلل حملة الدعوة وقد يضلل اصحاب الدعاية لفكرة، فأسلوب الدعاية إذا استعمل في أسلوب الدعوة يخفق على المدى الطويل، وأسلوب الدعوة إذا استعمل في الدعاية يجعل الدعاية تخفق. فأسلوب الدعوة يعتمد على شرح الحقائق كما هي، أما أسلوب الدعاية فإنه يعتمد على تزيين الفكرة وبهرجتها. وإن كان كل منهما لا بد فيه من حسن العرض. ومثلاً أسلوب نصب الحاكم في النظام الديمقراطي وهو جعل الشعب ينتخب الحاكم، ينفع في نصب الحاكم في النظام الإسلامي، فيجعل الشعب ينتخب الحاكم. ولكن حين يراد اتخاذ أسلوب لنصب خليفة للمسلمين يجب أن يفكر في واقع الحكم في نظام الإسلام بأنه نصب حاكم دائم وليس حاكماً لفترة زمنية محددة، ولذلك لا بد من التفكير في نوع الحكم في الإسلام عند التفكير في رسم أسلوب لنصب الخليفة فيجعل مثلاً حصر المرشحين الذين هم أهل للخلافة من قبل ممثلي الأمة ومنع ترشيح من عداهم. ثم جعل الشعب ينتخب من يريد من هؤلاء المرشحين فقط، ثم الطلب من الشعب كله أن يبايع الذي ارتضاه أكثر المسلمين خليفة للمسلمين. صحيح أن البيعة هي طريقة لنصب الخليفة وليست أسلوباً، ولكن كيفية أداء البيعة، هو أسلوب. ولذلك لا يكفي أن يكون الأسلوب نافعاً في العمل الجديد كما نفع في غيره من الأعمال، ولكن حتى يقرر هذا الأسلوب لهذا العمل لا بد من التفكير في العمل حين التفكير في الأسلوب: فإن التفكير في نوع العمل ضروري عند التفكير في وضع أسلوب للقيام به.
إن الأسلوب هو كيفية معينة للقيام بالعمل وهو كيفية غير دائمة بعكس الطريقة فإنها كيفية دائمة للقيام بالعمل. والطريقة لا تختلف مطلقاً ولا تتغير، ولا تحتاج إلى عقلية مبدعة حتى تقوم بها. لأنها يقينية فهي إما أن تكون هي يقينية وإما أن يكون أصلها يقينياً. أما الأسلوب فإنه قد يخفق عند استعماله للقيام بالعمل وقد يتغير ويحتاج إلى عقلية مبدعة للقيام به. ومن هنا كان التفكير بالأساليب أعلى من التفكير بالطرق. فالطريقة قد يستنتجها عقل مبدع، ولكن قد يستعملها عقل عادي. أما الأسلوب فإن الوصول إليه يحتاج إلى عقل مبدع، أو عقل عبقري، وإن كان استعماله قد ينتج بالعقل العادي.
فالطريقة ليس من الضروري أن ينتجها العقل المبدع، ولكن الأسلوب من الضروري أن ينتجه العقل المبدع أو العقل العبقري، سواء أكان متعلماً أو غير متعلم. لأن الوصول إلى الأسلوب لا يتعلق بالعلم والمعرفة بل هو يتعلق بالعملية الفكرية التي تجري من أجل الوصول إليه. ومن هنا يتفاوت الناس في حل المشاكل. لأنهم يحلونها بأساليب، فقد يحاول شخص حل مشكلة ما، فتستعصي عليه فيهرب منها أو يعلن عجزه عن حلها أو يظن انها مشكلة لا حل لها، ولكن من يملك عقلية حل المشاكل إذا عالج مشكلة لحلها واستعصت عليه، فإنه يغير الأسلوب الذي يستعمله أو يقوم بعدة أساليب، وإذا استعصت عليه رغم مختلف الأساليب، فإنه لا يهرب منها ولا يعلن عجزه عن حلها، ولا ييأس من حلها، وإنما يصبر عليها، ويتركها فترة من الوقت، أي يتركها للزمن على حد قولهم، ثم يعاود التفكير بحلها فترة بعد أخرى حتى يحلها. ولذلك فإن من لديه عقلية حل المشاكل لا توجد لديه مشكلة لا حل لها، بل إن كل مشكلة لها حل والسبب في ذلك اعتماده على قدرته في إيجاد الأساليب التي تحل هذه المشكلة المستعصية. ومن هنا كان التفكير بالأساليب من ميزات العقول المبدعة أو العبقرية فإن حل المشاكل متوقف على التفكير بالأساليب.
وأما التفكير بالوسائل فإنه صنو التفكير بالأساليب ومقارن له، وهو التفكير بالأدوات المادية التي تستعمل للقيام بالأعمال، فإذا كان التفكير بالأساليب هو الذي يحل المشاكل، فإن هذه الأساليب لا قيمة لها إذا استعملت وسائل لا توصل إلى حل. إلا أن إدراك الوسائل وإن أتى عن طريق التفكير، ولكن التجربة للوسيلة عنصر هام في معرفتها. ولذلك يتحتم على المفكر بالأساليب أن يكون مفكراً بالوسائل، وإلا فإن جميع الأساليب لا يمكن أن تنتج إذا استعملت وسائل لا تقوى على استعمال الأساليب، ولا سيما وأن الوسائل جزء جوهري في إنتاج الأساليب. فمثلاً رسم خطة لقتال العدو هو رسم لأسلوب وإن كان خطة، لأن الخطة نفسها أسلوب، فإذا رسم الخطة رسماً صحيحاً مائة بالمائة، ولكنه استعمل السلاح الذي لا يقوى على مواجهة سلاح العدو، فإن الخطة مخفقة قطعاً، ولو كان الرجال الذين يحاربون أقوى من رجال العدو، ولو حارب برجال يقوون على مقاتلة العدو ولو كان ضعفي قوته، فإن الخطة مخفقة حتماً، فالخطة الموضوعة للحرب أسلوب، والرجال والأسلحة وسائل لتنفيذ هذا الأسلوب، فإذا لم يكن التفكير بالوسائل موجوداً عند التفكير بالأسلوب أو كانت الوسائل ليست من النوع الذي ينفذ به هذا الأسلوب فإنه لا قيمة للتفكير بالأساليب، ولا قيمة للأساليب التي فكر فيها، لأنها لا تثمر إلا إذا جرى التفكير بها عند التفكير بالأسلوب، وكانت من النوع الذي يستعمل في هذا الأسلوب. وعليه فإنه لا يصح أن يجري التفكير بالوسائل خارج التفكير بالأساليب، ولا يصح أن يجري التفكير بالوسائل إلا على ضوء الأسلوب الذي يجري التفكير به.
إلا انه وإن كانت الأساليب قد تخفى على المفكر، ولكن الوسائل أشد خفاء على كل مفكر، وذلك لأن الأساليب يكفي أن يجري التفكير بها حتى تقرر، ولكن الوسائل لا بد أن يجري التفكير بها، وأن تجري تجربتها لتقرر هذه التجربة صحتها وعدم صحتها وصلاحها لنوع الأسلوب وعدم صلاحها. فمثلاً تقوم الدول غير الصناعية بشراء الاسلحة من الدول الصناعية وتقوم بتدريب جيوشها على هذه الأسلحة بمعرفة خبراء الدول الصناعية. ولكنها لم تجر تجارب على هذه الأسلحة. ولم تختبر تدريب الجنود ولذلك فإنها مهما وضعت من خطط، لا تكون قد اختارت الوسائل التي هي من نوع هذه الخطط. صحيح انها تتلقى التعليم العسكري من الدول العسكرية، ومن الدول الصناعية ولكن التعليم العسكري، ورسم الخطط وما شابهه من العلوم العسكرية هو أسلوب، ويكفي فيه التفكير، ولكن الوسائل لا يكفي فيها التفكير، فلا بد من التجربة إلى جانب التفكير حتى يجري التفكير بالوسائل.
ومثلاً، تشكيل كتلة أو حزب على فكرة من أجل نشر هذه الفكرة في الشعب أو الأمة واتخاذ تسلّم الحكم طريقة لتنفيذ هذه الفكرة. فإن هذه الكتلة أو الحزب إذا جرى تقصّد العلماء في هذه الفكرة ليكونوا أعضاء في الحزب، وتقصّد من لهم ثقل في وسطهم أو في المجتمع لكسبهم لعضوية الحزب، فإن هذه الكتلة أو هذا الحزب سيخفق في تحقيق غايته فهو إذا نجح بالعلماء في نشر الفكرة فلن ينجح بهم في تسلم الحكم، وإذا نجح بالذين لهم ثقل في تسلم الحكم فلن يقوم الحكم على الفكرة ولن تنشر الفكرة. وتشكيل غالبية الحزب من أحد الفريقين أو الفريقين معاً سوف يقصر عمر الحزب، ويخفق في تحقيق غايته ويظل سائراً في طريق الفناء حتى يفنى. فإن هذه الوسائل وهي الأشخاص من هذا النوع، إنما جاء التفكير بها عن طريق العقل وحده، ولم يجر عن طريق التجربة إلى جانب العقل، ولكن إذا أخذت حقائق التاريخ في هذا النوع من تشكيل الأحزاب فإنه يكون قد جرى التفكير بالوسيلة عن طريق العقل، وعن طريق التجربة. فأخذ حقائق التاريخ في هذا الأمر واستعمال الوسائل حسب هذه الحقائق التاريخية يكون تفكيراً منتجاً بالوسائل، واختبارها من نوع الأساليب. وحقائق التاريخ تحتم على الكتلة التي تقوم على فكرة، لنشر الفكرة وجعل الحكم طريقة لتنفيذها، أن تقصد الشعب أو الأمة بغض النظر عن الأفراد، فتقبل أي شخص يقبل هذه الفكرة ويقبل الانخراط في الكتلة باعتباره فرداً من الشعب أو فرداً من الأمة، بغض النظر عن درجة تعلمه وبغض النظر عن مكانته. وأن هذا وحده الذي يضمن نجاح الحزب أو الكتلة، وتحقيق غايته التي يهدف إليها.
وعليه فإن الوسائل قد تخفى وقد يضلل عنها إذا جرى التفكير بها في معزل عن التفكير بالأسلوب الذي تنفذه، وقد تخفى ويضلل عنها إذا لم تجر تجربتها. ولذلك لا بد من التفكير بالوسائل، وأن يكون هذا التفكير عند التفكير بالأساليب ولا بد أن تجري تجربة هذه الوسائل إلى جانب التفكير بها، حتى يضمن نجاح الوسائل وتحقق بها الأهداف. أي حتى تثمر الأساليب التي تستعمل الوسائل.
واما التفكير في الغايات والأهداف فإنه أولاً تحديد ما يريده، أي تحديد ما يهدف إليه. وهذا التحديد ضروري للوصول إلى التفكير المثمر. وتحديد ما يريده ليس بالأمر السهل، فإن الأمم والشعوب المنحطة لا تعرف ما تريد، وقلما تستطيع معرفة ما تريد. والأفراد المنخفضو التفكير، وحتى الكثيرون من مرتفعي التفكير لا يحددون ما يريدون ومنهم من لا يستطيع تحديد ما يريد. أما الشعوب والأمم فإنها لوجود مظهر القطيع، أو على حد تعبيرهم غريزة القطيع بشكل بارز ومكون للتجمع، فإنه يتحكم فيهم التقليد، ويغلب عليهم عدم تمحيص الأفكار، ولذلك تتكون عندهم أفكار مغلوطة، فتوجد لديهم معلومات غير صادقة، ويندفعون دون تحديد غاية، أو دون أن يقصدوا تحديد غاية. ولهذا يغلب عليهم عدم تحديد الغايات. أما الأفراد، فإنه لعدم وجود القصد لديهم فإنهم لا يعنون أنفسهم بالغايات والأهداف، ولذلك يسيرون في تفكيرهم إلى غير غاية، فلا يكون لتفكيرهم ثمرة ولا يسيرون نحو غاية محددة. مع أن تحديد الغايات والأهداف في التفكير أمر لازم لجعل التفكير مثمراً. وذلك أن التفكير أو العمل إنما يوجد من أجل شيء معين، أي من أجل غاية معينة، ومن أجل ذلك ترى أن كل إنسان مفكر، ولكن ليس كل إنسان قادراً على تحقيق الأهداف.
والغايات والأهداف تختلف باختلاف الناس. فالأمة المنحطة غايتها أن تنهض والأمة المتقدمة غايتها أن تحقق جميع أنواع الإشباع. والشعب البدائي غايته أن يظل محتفظاً بأوضاعه التي هو عليها والشعب المتقدم غايته أن يحس حاله وأن يحدث التغيير، والفرد المنخفض التفكير، غايته أن يشبع طاقته الحيوية والشعب المرتفع التفكير غايته أن يحسن نوع الإشباع لديه. وهكذا تختلف الغايات والأهداف باختلاف الناس ومستواهم في التفكير. إلا أنه مهما تكن الغايات والأهداف لدى الشعوب والأفراد فإن الصبر على تحقيق الأهداف، والجد في ملاحقتها إنما يكون في الغايات القريبة، والأهداف السهلة فإشباع الجوعات، من حيث هو إشباع غاية سهلة، حتى لو كانت غير قريبة ولذلك فإن طاقة الصبر عليها تكاد تكون موجودة عند كل إنسان وإن كانت تتفاوت لدى الناس. فأن تسعى لتأكل أو تسعى لإطعام عيالك، أو تسعى لتملك أو تسعى في طلب الأمان وما شاكل ذلك، فإن تحقيق هذه الغايات موجود لدى جمهرة الناس. أما أن تسعى لتنهض أو لإنهاض شعبك أو تسعى لرفع منزلتك أو لرفع منزلة شعبك أو أمتك، فإنها غايات يحتاج تحقيقها إلى صبر وإلى ملاحقة جادة، وهذا ليس في مقدور كل إنسان. فقد تبدأ الطريق، ولكن قد تقصر دون تحقيق الغاية لما ينالك من تعب ولفقدان الصبر. وقد تبدأ السعي ولكن تبدؤه غير جاد وتسير به غير جاد، فتظل تسير ولكن لن تحقق غاية، مع أنه لم ينلْك التعب ولم تفقد الصبر. ولكنك غير جاد في السير، وتحقيق الغايات البعيدة يحتاج أول ما يحتاج إلى جدية ثم إلى الصبر والملاحقة.
والأفراد أقدر على الصبر من الجماعات أي من الشعوب والأمم. لأن الرؤية عندهم أكثر وضوحاً وأقوى من الجماعات، لأن تجمع الناس يضعف لديهم التفكير، ويضعف لديهم الرؤية، ولذلك كانت رؤية الواحد أقوى من رؤية الاثنين، وكلما كبر العدد قلت الرؤية. ولذلك لا يصح أن توضع للشعوب غايات بعيدة فإنهم لا يسيرون لتحقيقها، وإن ساروا، فإنهم لا يسيرون بجدية ولا يبلغون الغاية. ومن هنا كان لا بد أن تكون الغاية التي توضع للشعوب غاية قريبة ممكنة التحقيق، ولو أدى إلى وضع غايات قريبة كمرحلة من المراحل، حتى إذا جرى تحقيقها انطلقوا إلى غاية أخرى وهكذا. لأن الجماعة أقرب من الفرد لرؤية الممكن وأقل احتمالاً للمصاعب الكبيرة. فالممكن عقلاً لا تستطيع الشعوب أن تجعله غاية، بل الممكن فعلاً هو الذي يمكن أن تراه وتسعى لتحقيقه. أما الأفراد فإنهم بشكل عام قادرون على رؤية أن الممكن عقلاً ممكن فعلاً، وقادرون على الرؤية البعيدة، وهم أكثر صبراً على المشقات وأكثر احتمالاً للمصاعب، وأقدر على السير في المرحلة البعيدة.
إلا أن الغايات والأهداف سواء وضعت للأمم والشعوب أو للأفراد، فلا يصح أن يكون تحقيقها يحتاج إلى أجيال، ولا إلى جهد فوق طاقة البشر، ولا إلى وسائل غير موجودة أو غير ممكنة الإيجاد. بل لا بد أن تكون غاية يمكن للجيل الذي يعمل لتحقيقها أن يحققها، ويمكن بالجهد العادي للإنسان أن يحققها، وأن تكون وسائلها موجودة أو ممكنة الإيجاد. وذلك أن الغاية هدف يسعى إليه نفس الساعي، ولا يسعى إليه إذا كان مُسَلَّماً لديه أنه لن يحققه. وما دام يريد أن يسعى إليه فإنه يحتاج إلى الوسائل التي يحققه بواسطتها، فإذا لم توجد لديه الوسائل التي يسعى بها فإنه لن يسعى إليه حتى لو تظاهر بالسعي، أو لو خدع نفسه بأنه يسعى. وهو يسعى بطاقته البشرية فإذا كانت طاقته البشرية لا تكفي للسعي فإنه لن يسعى مطلقاً، لأنه لا يكلف الإنسان فوق طاقته، بل لا يستطيع أن يعمل فوق طاقته. ولذلك لا بد أن تكون الغايات مهما بعدت، من الممكن أن يحققها نفس الساعي، بجهده العادي، بالوسائل التي لديه.
فالغاية من التفكير يجب أن تحدد، والغاية من العمل يجب أن تحدد، وأن تكون غاية مرئية للبصر أو مرئية للبصيرة. وأن تكون ممكنة التحقيق عقلاً وفعلاً وإلا فقدت كونها غاية. وإذا كان الأفراد لا بد أن يكون لتفكيرهم وعملهم غاية، فإن الشعوب والأمم لا بد أن تكون لديها غاية أو غايات. إلا أن غاية الشعوب والأمم لا يصح أن تكون بعيدة بل لا بد أن تكون قريبة، وكلما كانت أقرب، وأكثر تحقيقاً كلما كانت أحسن وأقرب للإثمار، وأكثر إمكانية للتفكير والعمل. صحيح أن الشعوب والأمم لا يتصور أن تضع لنفسها غايات، ولا أن ترسم بمجموعها أهدافاً. ولكن هذه الشعوب والأمم تشيع بينها أفكار وتتخذ آراء وتعتنق عقائد فتكون هذه الأفكار هي أفكارها وهذه الآراء هي آراءها، وهذه المعتقدات هي معتقداتها. وكذلك تطغى عليها غايات إما من جراء أفكار وآراء ومعتقدات، وإما من جراء تجارب الحياة، وإما من جراء ما تكون فيه من حرمان أو إشباع. فتتكون لديها غايات: إما القضاء على الحرمان، وإما تحسين الإشباع. فالشعوب والأمم تكون لها غايات، وإن كانت هي بمجموعها لا تستطيع أن ترسم غايات. إلا أن غاياتها كلها هي من النوع الممكن التحقيق فعلاً، ولا تكون من النوع الممكن عقلاً، وغير مشاهد بالفعل أنه ممكن فعلاً.
ومما يجب أن يلفت النظر إليه هو التفريق بين الغاية والمثل الأعلى. فالمثل الأعلى هو غاية الغايات، ولا يشترط فيه إلا السعي لنواله وتحقيقه فلا يشترط فيه أن يكون ممكن التحقيق فعلاً، ولكن يشترط فيه أن يكون ممكن التحقيق عقلاً. فالمثل الأعلى هو غير الغاية، وإن كان هو نفسه غاية. إلا أن الفرق بينه وبين الغاية هو أن الغاية لا بد من معرفتها قبل القيام بالعمل، ودوام معرفتها أثناء القيام بالعمل والسعي الحثيث لتحقيقها، والدأب حتى تحقق فعلاً. أما المثل الأعلى فإنه يلاحظ مجرد ملاحظة أثناء التفكير وأثناء الأعمال وتكون جميع الأفكار والأعمال من أجل تحقيقه. فمثلاً رضوان الله هو المثل الأعلى للمسلمين ولكل مسلم. وقد يتخذ بعضهم دخول الجنة مثلاً أعلى وقد يتخذ بعضهم اتقاء دخول النار مثلاً أعلى، ولكن هذين الأمرين وما شاكلهما وإن كان يصح أن تكون غاية الغايات، ولكنها لا يطلق عليها المثل الأعلى، فهي غايات لغايات قبلها، ولكن توجد غاية بعدها. والمثل الأعلى وإن كان غاية الغايات ولكنه لا تكون غاية بعده. وغاية الغايات التي لا غاية بعدها، هي رضوان الله. ومن أجل ذلك كان المثل الأعلى للمسلم هو نوال رضوان الله. ولهذا قيل في حق بعض الأتقياء الأبرار " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " لأن غايته من عدم العصيان ليست خوف الله من أن يعذبه على المعصية، بل غايته أن ينال رضا الله. فهو لو لم يوجد لديه الخوف من الله فإنه لا يقدم على المعصية. لأن عدم إقدامه على المعصية هو لطلب رضوان الله لا خوفاً من عذابه. فالمثل الأعلى عند المسلمين هو رضوان الله، وليس دخول الجنة ولا اتقاء دخول النار.
فالمثل الأعلى وإن كان غاية، باعتباره غاية الغايات، ولكنه غير الغاية والهدف فما يقال في شأن التفكير أو العمل من أنه لا بد أن تحدد الغاية منه، لا يقصد به المثل الأعلى وإنما يقصد به الغاية التي تحقق فعلاً وإن كان وراءها غاية أخرى أو غايات. فالغاية يجب أن تكون محددة وأن تكون ممكنة التحقيق على يد من يسعى إليها لا على يد الأجيال الآتية، وأن تكون وسائلها متيسرة أو يمكن أن تيسر إمكاناً عملياً واقعياً. فهي ليست المثل الأعلى بل هي الهدف الذي يقصد تحقيقه. ولذلك يتحتم أن يكون التفكير بالغاية تفكيراً واقعياً عملياً. أي أن تكون ممكنة التحقيق على يد من يسعون إليها.
وهنا قد يرد سؤال وهو أن عمر الأمم لا يقاس بالجيل الواحد بل بالأجيال وأن التخطيط لمستقبل الأمة يجب أن يكون بعيد المدى بحيث تحققه الأجيال الآتية فكيف يقال إن الغاية لا بد أن يحققها نفس الذين يسعون إليها؟
والجواب على ذلك أن عمر الأمم لا يقاس بالأجيال. ولا بمئات السنين كما يتوهم، بل هو يقاس بالعقود فالعقد الواحد من ألزمن تتحول فيه الأمة وتنتقل من حال إلى حال، والفكرة العملية يمكن أن تعطى للأمة وتعلق بها في جيل واحد مهما وجدت من مقاومة على شرط جدية التفكير وجدية العمل. ولذلك لا تحتاج الأمة إلى أجيال ولا إلى مئات السنين، بل تحتاج كل فكرة وكل عمل لأن يثمر في الأمة إلى ما لا يقل عن عقد، فإن في العقد الواحد يجري تحويل الأمة، وإذا كانت خاضعة لعدوها فإنها تحتاج إلى أكثر من عقد، ولكنها لا تحتاج لأكثر من ثلاثة عقود مع المقاومة. ولذلك لا بد أن تثمر الحركة أو العمل أو الفكرة في الأمة على يد الناس الذين يسعون إلى تحقيق هذه الفكرة أو هذا العمل لا على يد الأجيال التي تأتي بعدهم. فالغاية يجب أن تكون من النوع الذي يحققه الساعون إليها، هذا شرط التفكير في الغاية ولا تكون غاية إذا كان الساعون إليها لا يحققونها بأنفسهم.
أما ما يقال عن التخطيط للأمة وجعل الأجيال الآتية تمشي لتحقيق هذه المخططات كما تفعل الشعوب والأمم الحية. فإن هذا النوع من التخطيط ليس غاية حتى ولا أفكاراً محددة، بل هو خطوط عريضة وأفكار عامة. ترسم على سبيل الفرض لا على أنها غاية، ولذلك لا يعتبر مثل هذا غاية، وإنما يعتبر أفكاراً عامة بفرض وجودها. ولكن الغاية هي فقط الأمر الذي يحققه الساعون إليه. هذه هي الغاية وهذا هو التفكير بالغاية. وما عدا ذلك فإنه مجرد فروض ونظريات وليس تفكيراً بالغايات.
والتفكير إما أن يكون سطحياً وإما عميقاً وإما مستنيراً. فالتفكير السطحي هو تفكير عامة الناس. والتفكير العميق يكون عند العلماء أما التفكير المستنير فغالباً ما يكون تفكير القادة والمستنيرين من العلماء وعامة الناس. فالتفكير السطحي هو نقل الواقع فقط إلى الدماغ دون البحث في سواه ودون محاولة إحساس ما يتصل به. وربط هذا الإحساس بالمعلومات المتعلقة به دون محاولة البحث عن معلومات أخرى تتعلق به. ثم الخروج بالحكم السطحي وهذا ما يغلب على الجماعات وما يغلب على منخفضي الفكر، وما يغلب على غير المتعلمين وغير المثقفين من الأذكياء.
والتفكير السطحي هو آفة الشعوب والأمم، فإنه لا يمكنها من النهضة بل لا يمكنها من العيش الرغيد، وإن كان قد يمكنها من العيش الهنيء. وسبب التفكير السطحي هو ضعف الإحساس أو ضعف المعلومات أو ضعف خاصية الربط الموجودة في دماغ الإنسان. وهو ليس التفكير الطبيعي عند الإنسان، وإن كان هو التفكير البدائي. فبني الإنسان يختلفون في قوة الإحساس وضعفه، ويختلفون في قوة خاصية الربط وضعفها، ويختلفون في كمية أو نوع المعلومات التي لديهم سواء أكانت معلومات أخذت بالتلقي أو بالمطالعة، أو أخذت من تجارب الحياة. فإن اختلافها يعني أن التفكير يكون بحسبها. والأصل في جمهرة الناس أن يكونوا أقوياء في الدماغ وخاصية الربط، إلا القليل وهم الذين خلقوا ضعفاء أو طرأ الضعف عليهم. والأصل في جمهرة الناس أن تتجدد لديهم المعلومات يومياً، حتى ولو كانوا أميين، اللهم إلا الشواذ وهم الذين لا يلفت نظرهم شيء ولا يقيمون وزناً لما يتلقونه أو يطالعونه من المعلومات. ولذلك فإن التفكير السطحي ليس طبيعياً بل هو شاذ. إلا أن تعوّد الأفراد على التفكير السطحي ورضاهم بنتائجه، وعدم حاجتهم للأمور الأعلى مما لديهم يجعل التفكير السطحي عادة فيستمرون على هذا النمط من التفكير ويستمرئونه، ويتبلور ذوقهم عليه. أما الجماعات فإنه لنقصان قدرتهم على التفكير من جراء كونهم جماعة فإنه يغلب عليهم التفكير السطحي حتى لو كانت جماعة من المفكرين المبدعين. لذلك كان التفكير السطحي هو الغالب في الحياة، ولولا أن أفراداً من الشعب أو الأمة يوهبون قدرة خارقة من الإحساس والربط فإنه لا يتصور وجود نهضة ولا يتصور تقدم مادي في الحياة.
والتفكير السطحي ليس له علاج في الجماعات، إلا أنه يمكن رفع مستوى الواقع والوقائع، ويمكن تزويد الجماعات بأفكار سامية ومعلومات ثرّة أي كثيرة، فيمكن أن يرفع مستوى تفكيرهم، ولكنه يظل على كل حال سطحياً وإن كان مستواه عاليا. يعني أنه يمكن أن يتصرف الشعب والأمة، تصرفات التفكير المستنير، ولكن تفكيرهم على كل حال يظل تفكيراً سطحياً ولا تستطيع الجماعات أن تفكر التفكير العميق أو التفكير المستنير مهما بلغت من الارتفاع والرقي. لأنها لا تستطيع بوصفها جماعة أن تتعمق في البحث، أو يكون لديها فكر مستنير، فلأجل رفع مستوى تفكيرها لا يحاول معالجة تفكير الجماعة، وإنما يحاول معالجة الواقع والوقائع التي يقع إحساس الجماعة عليها ويمكن معالجة الأفكار والمعلومات التي توضع فيها. فترتفع السطحية، ولكنها لا تزول فيرتفع بذلك مستوى تصرفاتها.
أما الأفراد، فإنه يمكن إزالة السطحية أو تخفيفها أو جعلها نادرة لديهم. وذلك أولاً بإزالة العادة في التفكير الموجودة لديهم. وذلك بتعليمهم أو تثقيفهم ولفت نظرهم إلى سخافة تفكيرهم وإلى سطحية أفكارهم، وثانياً بإكثار التجارب لديهم أو أمامهم ويجعلهم يعيشون في وقائع كثيرة ويحسون بواقع متعدد ومتجدد ومتغير، وثالثاً بجعلهم يعيشون مع الحياة ويسايرون الحياة. وبهذا يتركون السطحية أو تتركهم السطحية ويصبحون غير سطحيين. وهؤلاء الأفراد كلما كثروا في الأمة، كلما كان الأخذ بيدها نحو النهوض أسهل وأقرب للتحقيق. وهؤلاء الأفراد وإن كانوا يعيشون في الأمة ويتلقون المعلومات الموجودة ويحسون بالواقع والوقائع الموجودة ولا يستطيعون سبق زمانهم، ولا من نوع يخالف نوع أمتهم. ولكنهم يستطيعون سبق أمتهم ويستطيعون نقلها من وضع إلى وضع آخر. لأنهم يتصورون وقائع الحياة الراقية تصوراً واقعياً وذلك عن طريق تقبل الأفكار الصادقة وقبول الآراء الصحيحة واعتناق الأفكار القطعية، والتمييز بين مختلف الآراء وإبصار واقع الآراء. فيوجد لديهم الإحساس الفكري أي الإحساس الناجم عن معرفة وإدراك، ومنطق الإحساس أي الفهم الناتج عن الإحساس مجرد الإحساس. فهم وإن كانوا يملكون حواس كما يملك سائر الناس ولديهم دماغ كما لدى سائر الناس، ولكن قوة خاصية الربط الموجودة في دماغهم يتفوقون بها عن سائر الناس، وكونهم يعنون أنفسهم بربط الإحساس بالمعلومات السابقة ربطاً صحيحاً، يكونون أكثر إدراكاً للأمور أي يكون تفكيرهم تفكيراً متميزاً عن غيرهم. فيتكون لديهم الإحساس الفكري وبه يعلو منطق الإحساس. ولذلك فإن الأفراد في ترك السطحية هم أقدر من الجماعات وإن كان لا قيمة لقدرتهم إلا إذا أخذتها الجماعات وتبنتها.
هذا هو علاج السطحية وهو معالجة الأفراد وجعل الأمة تأخذ ما وصلوا إليه من فكر وتتبناه، إلى جانب تجديد الوقائع في الأمة ووضع الأفكار السامية بينها وفي متناول يدها. وأن يجري ذلك في وقت واحد فإن العمل لترك السطحية في الأمة، لا قيمة له إذا لم يصحبه معالجة الأفراد، وعلاج الأفراد لا قيمة له إذا لم يكن سائراً مع العمل في الأمة لترك السطحية الموجودة لديها. لأن الأفراد جزء من الأمة غير قابل للتجزئة والانفصال. والأمة مكونة من مجموعة الناس الذين تربطهم طريقة معينة في العيش، والشعب مكون من مجموعة الناس الذين من أصل واحد يعيشون معاً. فالأفراد هم من جملة هؤلاء الناس سواء في الشعب أو الأمة. فلا يمكن انفصالهم عنها، ولا يمكن عزلها عنهم. لذلك لا بد أن يسير ترك السطحية ولا بد من العمل في الأفراد والأمة في وقت واحد حتى يمكن ترك السطحية من الجميع.
أما الفكر العميق فهو التعمق في التفكير أي التعمق في الإحساس بالواقع والتعمق في المعلومات التي تربط بهذا الإحساس لإدراك الواقع. فهو لا يكتفي بمجرد الإحساس وبمجرد المعلومات الأولية لربط الإحساس، كما هي الحال في التفكير السطحي بل يعاود الإحساس بالواقع ويحاول أن يحس فيه بأكثر مما أحس إما عن طريق التجربة، وإما بإعادة الإحساس، ويعاود البحث عن معلومات أخرى مع المعلومات الأولية، ويعاود ربط المعلومات بالواقع أكثر مما جرى ربطه، إما بالملاحظات وتكرارها وإما بإعادة الربط مرة أخرى. فيخرج من هذا النوع من الإحساس وهذا النوع من الربط، أو هذا النوع من المعلومات بأفكار عميقة سواء أكانت حقائق أو لم تكن حقائق وبتكرار ذلك وتعوده يوجد التفكير العميق. فالتفكير العميق هو عدم الاكتفاء بالإحساس الأولي وعدم الاكتفاء بالمعلومات الأولية وعدم الاكتفاء بالربط الأولي. فهو الخطوة الثانية بعد التفكير السطحي. وهذا هو تفكير العلماء والمفكرين وإن كان لا ضرورة لأن يكون تفكير المتعلمين. فالتفكير العميق هو التعمق في الحس والمعلومات والربط.
أما التفكير المستنير فهو التفكير العميق نفسه مضافاً إليه التفكير بما حول الواقع وما يتعلق به للوصول إلى النتائج الصادقة. أي أن التفكير العميق هو التعمق بالفكر نفسه ولكن التفكير المستنير هو أن يكون إلى جانب التعمق بالفكر، والتفكير بما حوله وما يتعلق به، من أجل غاية مقصودة وهي الوصول إلى النتائج الصادقة. ولذلك فإن كل فكر مستنير هو تفكير عميق، ولا يتأتى أن يأتي التفكير المستنير من التفكير السطحي. إلا أنه ليس كل تفكير عميق تفكيراً مستنيراً. فمثلاً عالم الذرة حين يبحث في شطر الذرة وعالم الكيمياء حين يبحث في تركيب الأشياء والفقيه حين يبحث في استنباط الأحكام ووضع القوانين. فإنهم هم وأمثالهم حين يبحثون الأشياء والأمور، إنما يبحثونها بعمق ولولا العمق لما توصلوا إلى تلك النتائج الباهرة. ولكنهم ليسوا مفكرين تفكيراً مستنيراً، ولا يعتبر تفكيرهم تفكيراً مستنيراً. ولذلك لا تعجب حين تجد عالم الذرة يصلي للخشبة أي للصليب. مع أن أبسط استنارة ترى أن هذه الخشبة لا تنفع ولا تضر وأنها ليست مما يعبد، ولا تعجب حين تجد القانوني الضليع يصدق بوجود القديسين ويسلم نفسه لرجل مثله من أجل أن يغفر له ذنوبه. لأن عالم الذرة والقانوني وأمثالهما يفكرون تفكيراً عميقاً وليس تفكيراً مستنيراً، ولو كان تفكيرهم مستنيراً لما وصلوا للخشبة، ولما صدقوا بوجود القديسين، ولما طلبوا الغفران من رجال أمثالهم. صحيح أن المفكر تفكيراً عميقاً إنما هو عميق فيما فكر فيه وليس بسواه، فقد يكون عميقاً عند تفكيره بشطر الذرة أو وضع القانون ولكنه يكون سخيفاً في غيره إذا فكر فيه. هذا صحيح. ولكن اعتياد المفكر على التفكير العميق يجعله يتعمق في أكثر ما يفكر، ولا سيما الأمور التي تتعلق بالعقدة الكبرى أو وجهة النظر في الحياة. ولكن عدم وجود الاستنارة في تفكيره يجعله يعتاد التفكير العميق، ويعتاد التفكير السطحي وحتى التفكير السخيف. ولذلك فإن التفكير العميق وحده لا يكفي لإنهاض الإنسان ورفع مستواه الفكري، بل لا بد حتى يحصل ذلك من الاستنارة في الفكر حتى يوجد الارتفاع في الفكر.
والاستنارة وإن كانت ليست ضرورية في الوصول إلى نتائج صحيحة في الفكر، كالعلم التجريبي والقانون والطب ونحو ذلك، ولكنها ضرورية لرفع مستوى الفكر، وجعل التفكير ينتج مفكرين. ولذلك فإن الأمة لا يمكن أن تنهض من جراء وجود العلماء في العلم التجريبي ولا من وجود الفقهاء والقانونيين، ولا من وجود الأطباء والمهندسين؛ لا تنهض من جراء وجود هؤلاء وأمثالهم وإنما تنهض إذا وجد لديها استنارة في التفكير، أي إذا وجد لديها المفكرون المستنيرون.
والاستنارة في التفكير لا تقتضي وجود التعليم، أي أن المفكرين المستنيرين لا ضرورة لأن يكونوا متعلمين، فالأعرابي الذي قال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، هو مفكر مستنير، والخطيب الذي قال: إن الحذر لا ينجي من القدر وإن الصبر من أسباب الظفر؛ هو مفكر مستنير، ولكن الشاعر الذي قال:
مات الخليفة أيها الثقلان فكأنني أفطرت في رمضان

ليس مفكراً مستنيراً ولو كان فقيهاً متعلماً. والحكيم الذي قال: رأس الحكمة مخافة الله، ليس مفكراً مستنيراً، فإن رأس الحكمة إدراك وجود الله، وليس مخافة الله. فالتفكير المستنير لا يحتاج إلى علم ولا يحتاج إلى حكمة، وإنما يحتاج لأن يفكر بعمق وأن يجول فيها حول الشيء وما يتعلق به بقصد الوصول إلى النتائج الصادقة، ولذلك قد يكون أميا لا يقرأ ولا يكتب، كما قد يكون متعلماً أو عالماً. والمفكر المستنير لا يكوّن فكراً مستنيراً، إلا إذا وجدت فيه الاستنارة عند التفكير. فالسياسي مفكر مستنير، والقائد مفكر مستنير، ولكن كلاً منهما يحتاج لوجود الاستنارة عند التفكير في كل شيء حتى يكون ذلك التفكير مستنيراً. ولذلك لا نعجب إذا رأينا عظماء القادة وعظماء السياسيين يصلون للخشبة ويطلبون الغفران من رجال هم أقل منهم استنارة، فإن تفكيرهم هذا ليس فيه عمق ولا استنارة، بل هو من طريق العادة أو التقليد أو من طريق الدجل والنفاق. وكل هذا ليس عمقاً ولا استنارة لأن المفكر المستنير، لا يتصل بالدجل والنفاق، ولا تتحكم فيه العادات والتقاليد.
والمفكر سواء أكان سطحياً أو عميقاً أو مستنيراً، لا بد أن يكون جاداً في تفكيره. صحيح أن المفكر السطحي لا تساعد سطحية تفكيرة على الجدية، ولكنه في بعده عن العبث، وفي بعده عن العادة يمكن أن يكون جاداً. والجدية لا تحتاج إلى عمق وإن كان العمق يدفع إليها، ولا تحتاج إلى استنارة، وإن كانت الاستنارة تقتضيها لأن الجدية هي وجود القصد، والسعي لتحقيق هذا القصد، إلى جانب حسن التصور لواقع ما يفكر به. فالتفكير بالخطر ليس بحثاً فيه وإنما هو لاتقائه، والتفكير بالأكل ليس بحثاً فيه، وإنما هو للحصول عليه. والتفكير باللعب ليس بحثاً في اللعب، وإنما هو من أجل أن يلعب، والتفكير بالنزهة ليس بحثاً في النزهة وإنما هو من أجل أن يتمتع بالنزهة، والتفكير بالسير إلى غير هدف ليس تفكيراً بهذا السير، وإنما هو من أجل طرد السأم والملل، والتفكير بوضع القانون ليس بحثاً في القانون نفسه بل هو من أجل وضع هذا القانون. وهكذا كل تفكير مهما كان نوعه، هو تفكير بالشيء أو تفكير بالعمل بذلك الشيء. فالتفكير بالشيء لا بد أن يكون من أجل معرفته والتفكير بالعمل بذلك الشيء إنما يكون من أجل العمل به وفي كلتا الحالتين لا يصح أن يدخل العبث في أي واحد منهما ولا تتحكم عادة التفكير بالشيء أو بالعمل به، في ذلك التفكير، فإذا أبعد العبث وأبعدت العادة فإنه يوجد التفكير الجاد، لأنه حينئذ من السهل إن لم يكن من المحتم أن يوجد القصد والسعي لتحقيق هذا القصد ومن السهل بل من المحتم أن يوجد التصور لواقع ما يقصده، أي لواقع ما يفكر فيه.
وعليه فإن الجدية ممكن أن تكون في التفكير السطحي، كما توجد في التفكير العميق والتفكير المستنير، وإن كان الأصل في التفكير العميق والتفكير المستنير أن تحصل فيه الجدية. إلا أن الجدية ليست لازمة للتفكير، بل أن أكثر تفكير الناس خال من الجدية. فهم يقومون بأعمالهم عن طريق العادة وبحكم الاستمرار والعبث في تفكيرهم موجود بشكل بارز. ولذلك فإن الجدية لا بد أن تصطنع اصطناعاً، والقصد أساس لها، والاصطناع هو نفس القصد، ومن هنا يجب أن يقال إن الجدية غير طبيعية حتى لو لوحظ على بعض الناس أنه جدي طبيعياً.
إلا أن الجدية التي نعني ليس مطلق الجدية، بل الجدية التي تكون في مستوى ما يفكر به. فإن كانت دون مستواه لا تعتبر جدية. فالشخص الذي يفكر بالزواج ثم لا يعنى بما يحقق الزواج لا يكون جاداً في تفكيره بالزواج، والشخص الذي يفكر بالتجارة ثم ينفق كل ما يربحه من البيع ليس جاداً في تفكيره بالتجارة، والشخص الذي يفكر بأن يكون قاضياً ثم لا يعمل إلا بالسعي لأن يوظف في منصب القضاء ليس جاداً بأن يكون قاضياً، وإنما هو جاد بأن يكون موظفاً، والشخص الذي يفكر بإطعام عياله ثم يتلهى باللعب والدوران في الأسواق ليس جاداً بالتفكير بإطعام عياله، وهكذا.
فإن الجدية تقضي بأن يعمل لتحقيق ما يقصد إليه، وأن يكون عمله في مستوى ما يقصد إليه. فإذا لم يعمل لتحقيق ما يقصد إليه ولو الوصول إلى فكر معين أو يعمل أعمالاً هي دون ما يقصد إليه، فإنه ليس جاداً في تفكيره. فقول المرء إنه جاد في تفكيره لا يكفي لأن يكون جاداً، واصطناعه أحوالاً أو مظاهر أو حركات فكرية كانت أو مادية لا يكفي لأن يكون جاداً، ولا يكفي للدلالة على الجدية بل لا بد من القيام بأعمال مادية، وأن تكون هذه الأعمال في مستوى ما يفكر به حتى يكون جاداً، أو حتى يستدل على أنه جاد في تفكيره. فالقيام بالأعمال المادية، وأن تكون هذه الأعمال في مستوى ما يفكر به أمر ضروري حتى توجد الجدية في التفكير، أو حتى يستدل على وجود هذه الجدية في التفكير.
والأمم والشعوب المنحطة، والأفراد الكسالى أو الذين يتجنبون الأخطار أو الذين يتملكهم الحياء أو الخوف أو الاعتماد على الغير، فإن هؤلاء جميعاً غير جادين فيما يفكرون به. لأن الانحطاط يجعل المرء يستهوي الأسهل، فلا يعني نفسه بالأشق الأصعب، والكسل يتنافى مع الجدية، واتقاء الأخطار يصرف عن الجدية، والحياء والخوف والاعتماد على الغير يحول دون الجدية. ولذلك لا بد من رفع الفكر والقضاء على الكسل وحب اقتحام الأخطار، والتفريق بين الحياء وبين ما يجب أن يستحيى منه، والشجاعة وجعل الاعتماد على النفس سجية من السجايا، حتى توجد الجدية في الأفراد والشعوب والأمم. لأن الجدية لا توجد بشكل عفوي بل لا بد من اصطناع إيجادها.
أما ضرورة وجود الجدية في التفكير، فهو أنه ليس القصد من التفكير هو إيجاد الفكر فحسب، بل يجب أن يكون التفكير من أجل الانتفاع بهذا الفكر أي انتفاع. وبالتالي لا بد أن يكون التفكير من أجل العمل. فالأفكار التي ينتجها العلماء والمفكرون والمعارف التي يجري التوصل إليها، ليست للمتعة فقط ولا للتمتع واللذة بهذه الأفكار، وإنما هي من أجل الحياة ومن أجل العمل في هذه الحياة. ولذلك يخطىء من يقول: إن العلم يطلب لذات العلم، ولذلك لا قيمة للفلسفة اليونانية لأنها مجرد أفكار يتلذذ بها. ولا قيمة لأي علم لا يمكن الانتفاع به. لأن العلم لا يطلب للتلذذ به، وإنما تطلب المعرفة للعمل بها في هذه الحياة. ولذلك لا نستطيع أن نقول إن الفلاسفة اليونان ومن قلدهم من العلماء كانوا جادين في تفكيرهم، ولا نستطيع أن نقول إن العلماء المتأخرين عند المسلمين الذين جعلوا علوم البلاغة كالفلسفة، كحواشي السعد في علوم البلاغة، كانوا جادين في تفكيرهم، لأن هذا التفكير لا يستفاد منه في الحياة بشيء ما، وليس فيه إلا الاستمتاع بالدراسة والبحث. صحيح أن الشعراء والأدباء لا ينتفع بتفكيرهم في الحياة، ولكن لا ينتفع به من حيث القيام بالأعمال وإن كان قد ينتفع به، ولكن إنتاجهم هو نفسه منفعة، فإن قراءة القصيدة وقراءة النصوص الأدبية كالنثر بأنواعه، توجد لذة وتوجد انتعاشاً، فهم قد عملوا النصوص وإن كانت هي نفسها نتيجة تفكير، ولذلك لا يصح أن يقال إنهم ليسوا جادين. بل منهم الجادون المجيدون وإن كان فيهم من ليس جاداً ولا مجيداً. وهذا بخلاف الفلسفة فإن التفكير بها إنما جاء للوصول إلى الحقائق، وما ورد فيها ليس حقائق ولا يمت إلى الحقائق بصلة. وبخلاف علماء البلاغة الذين ألفوها على طراز الفلسفة فإن تفكيرهم إنما كان لمعرفة البلاغة في القول وليكون الناس بلغاء في القول، وما ورد فيها لا يوجد بلاغة ولا يمت إلى البلاغة بصلة. ولم يكن إنتاجهم سوى مدعاة للبحث ولذة البحث دون الوصول إلى الغاية التي أنتجوا من أجلها. لأنهم لم ينتجوا من أجل لذة البحث بل أنتجوا لشيء آخر، ولذلك لم يكونوا جادين في التفكير، لا لأنهم لم يصلوا إلى ما يريدون، بل لأن طبيعة ما أنتجوه يستحيل أن يوصل إلى ما يريدون. ولو كانوا جادين في التفكير لما أنتجوا هذه الفلسفة ولما أنتجوا هذا النوع من علوم البلاغة. لأن الجدية تقتضي القصد، والقصد من شأنه أن يوصل إلى الغاية فهم لم يقصدوا سوى البحث مجرد البحث. فهم بالتأكيد غير جادين في التفكير.
والجدية في التفكير لا تستلزم قصر المسافة بين الفكر والعمل ولا تقتضي طولها. لأن العمل هو نتيجة للفكر، فقد يفكر المرء بالذهاب إلى القمر وقد تطول المسافة بين هذا التفكير وبين الوصول. وقد يفكر بالأكل وقد تطول المسافة بين التفكير وبين القيام بالأكل. وقد يفكر بإنهاض أمته وقد تقصر المسافة بين تفكيره وبين وجود النهضة. فالمسألة ليست بطول المسافة أو قصرها، لأن المسافة بين التفكير والعمل، لا ضرورة لأن تكون قصيرة أو طويلة، بل قد تكون قصيرة وقد تكون طويلة. بل المهم هو أن يوجد عمل من جراء التفكير، سواء أوجده نفس المفكر أو أوجده سواه. فالتفكير يجب أن ينتج عملاً سواء أكان كلاماً كالشعراء والأدباء أو كان أعمالاً كالعلماء في العلوم التجريبية، أو كان خططاً كعلماء السياسة وعلماء الحرب. أو كان فعلاً مادياً كالحرب والأكل والتعليم وغير ذلك من الأفعال.
وعليه فإن التفكير. حتى ينتج النتيجة التي فكر بها، لا بد أن يكون جدياً سواء أنتج بالفعل ام أخفق في الإنتاج. فالجدية أمر ضروري في التفكير. وبدون الجدية يكون التفكير عبثاً في عبث أو لهواً ولعباً، أو رتيباً يسير على وتيرة واحدة بحكم العادة وبحكم التقليد. والتفكير الرتيب يستمرىء الحياة التي عليها المفكر والحياة التي عليها الناس، ويبعد عن الأذهان فكرة التغيير والتفكير بالتغيير.
والتفكير بالتغيير ضروري للحياة لأن ركود الحياة والاستسلام للأقدار هو من أخطر الآفات التي تجعل الشعوب والأمم تنقرض وتندثر مع الأحداث والأيام. ولذلك كان التفكير بالتغيير من أهم أنواع التفكير. والتفكير بالتغيير لا يستسيغه الخاملون ولا يقبله الكسالى، لأن التغير ثمنه باهظ. ولأن من تتحكم فيهم العادات يرون في التفكير بالتغيير ضرراً عليهم ونقلاً لهم من حال إلى حال، ولذلك يحاربه المنحطون والكسالى، ويقف في وجهه من يسمون بالمحافظين، ومن يتحكمون في رقاب العباد وأرزاقهم. لذلك كان التفكير بالتغيير خطراً على صاحبه، وكان من أشد ما يحارب حرباً لا هوادة فيها، بين جميع أنواع التفكير.
والتفكير بالتغيير، سواء أكان تغييراً لنفوس الأفراد أو حالهم أو تغييرا للمجتمعات أو تغييراً لأوضاع الشعوب والأمم أو غير ذلك مما يحتاج إلى تغيير، يجب أن يبدأ بالأساس الذي يعيش عليه الإنسان وبالمجتمعات التي لا أساس لها أو تقوم على أساس خاطىء، أو الأوضاع التي تسير على طريق غير مستقيم. هذا الأساس الذي تقوم عليه الحياة هو الذي يرفع الحياة أو يخفضها، وهو الذي يسعد الإنسان أو يشقيه، وهو الذي يوجد وجهة النظر في الحياة وبحسب وجهة النظر هذه يخوض الإنسان معترك الحياة.
فأولاً ينظر إلى هذا الأساس، فإن كان عقيدة عقلية تتجاوب مع فطرة الإنسان فإنه حينئذ لا يحتاج إلى تغيير ولا يطرأ على قلب أي بشر ولا في ذهن أي إنسان فكرة التغيير في هذا الأساس، لأنه هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه الحياة. لأن التغيير إنما يوجد حيث لا تكون الأشياء صحيحة، وحيث لا تكون الأمور مستقيمة، وحيث يكون الخطأ ماثلاً للعقل، أو بارزاً لمشاعر طاقة الإنسان الحيوية. فإذا ما كان العقل موقناً بشكل جازم بصحة الشيء واستقامة الأمر وكانت مشاعر الطاقة الحيوية مشبعة ومرتاحة فإن فكرة التغيير تنعدم كلياً. ولذلك فإنه لا يتأتى التفكير بالتغيير، إذا كان أساس الحياة عقيدة عقلية تتجاوب مع فطرة الإنسان. أما إذا كان الأساس الذي يعيش عليه الإنسان، ويقوم عليه المجتمع وتسير بحسبه الأوضاع، غير موجود أصلا أو موجوداً بشكل خاطىء، فإنه من العبث أن يجري التفكير بالتغيير لأي شيء قبل التغيير في الأساس، أي قبل التغيير في العقيدة التي يعتقدها الناس. ولذلك فإن المسلمين وقد نعموا بالعقيدة العقلية التي تتجاوب مع فطرة الإنسان، كان واجباً عليهم أن يحدثوا التغير في الناس الذين لا عقائد لهم، أو لهم عقائد فاسدة يمجها العقل ولا تتجاوب مع فطرة الإنسان، ومن هنا كان فرضاً عليهم أن يحملوا الدعوة الإسلامية إلى جميع الناس غير المسلمين ولو أدى ذلك إلى القتال وإلى خوض المعارك مع الكفار أي مع الذين لا توجد لديهم العقيدة العقلية المتجاوبة مع فطرة الإنسان.
فالتغيير يجب أن يبدأ بالأساس. فإذا غير هذا الأساس وحل محله الأساس المقطوع بصحته وصدقه، فحينئذ يفكر بالتغيير بالمجتمعات والأوضاع. وتغيير المجتمعات والأوضاع، إنما يكون بتغيير المقاييس والمفاهيم والقناعات. ذلك أنه إذا وجد الأساس الصحيح الصادق، فإنه يكون المقياس الأساسي لجميع المقاييس، والمفهوم الأساسي لجميع المفاهيم، والقناعة الأساسية لجميع القناعات. فمتى وجد هذا الأساس أمكن حينئذ تغيير المقاييس والمفاهيم والقناعات، وبالتالي أمكن التغيير بالمجتمعات والأوضاع لأنه تتغير به القيم كلها، قيم الأشياء، وقيم الأفكار وبالتالي تتغير مقومات الحياة. فالتفكير بالتغيير لا بد أن يكون عند الإنسان، أو لا بد أن يوجد عند الإنسان. وكل من يملك عقيدة عقلية متجاوبة مع فطرة الإنسان، يوجد لديه التفكير بالتغيير إما بالقوة بان يكون كامناً فيه، وإما بالتغيير كأن يباشر التفكير بالتغيير فعلاً أثناء خوضه معترك الحياة.
والتفكير بالتغيير لا يعني أنه موجود عند الذين يشعرون بضرورة تغيير أحوالهم أو أفكارهم، بل هو موجود ما دام في الكون حالة تقتضي التغيير، ولذلك فإن التفكير بالتغيير لا يقتصر على تغيير المرء لحاله ولا تغييره لمجتمعه ولا تغييره لشعبه وأمته، بل هو موجود لتغيير الغير، لتغيير الناس الآخرين والمجتمعات الأخرى والأوضاع الأجنبية. فإن الإنسان فيه خاصية الإنسانية وهي تقضي بالنظر للإنسان أينما كان، سواء أكان في بلده أو في غير بلده، وسواء كان في دولته أو في غير دولته، وسواء كان في أمته أو في غير أمته. فالتغيير يحاول الإنسان إحداثه في كل مكان يحتاج إلى التغيير.
والتفكير بالتغيير ينبع من قرارة النفس وتدفع إليه وقائع الحياة، بل يوجده مجرد الشعور بالحياة، وهو وإن كانت تقاومه القوى التي تشعر أن التغيير خطر عليها، فإنه موجود حتى لدى هذه القوى. فوجوده في الإنسان أمر حتمي. إلا أن جعل الناس يفكرون بالتغيير، إما أن يأتي بالإقناع وإما أن يأتي بالقوة القاهرة. ومتى حصل التغيير بالفعل أو إدراك قيمة التغيير فإنه يصبح التفكير بالتغيير سهلاً ميسوراً. لأنه يعيد إلى الناس شعورهم بضرورة التغيير، وبالتالي يوجد لديهم التفكير بالتغيير. ولذلك كان لزاماً على كل مسلم أن يكون لديه التفكير بالتغيير.
هذه عشرة أنواع من التفكير، أو عشرة نماذج للتفكير وهي كافية لإعطاء صورة عن التفكير. وهي وإن كانت تشمل التفكير ابتداء، والتفكير الذاتي والتفكير عن طريق الحس، والتفكير عن طريق السماع، إلا أنها تشمل كذلك التفكير في فهم النصوص، التفكير فيما يقرأ. ولكن التفكير بما يقرأ يحتاج إلى بحث خاص، ولفت نظر معين. ذلك أن القراءة وحدها لا توجد التفكير، بل لا بد من معرفة كيف يجري التفكير في النصوص إذا قرأها الإنسان. ذلك أن القراءة والكتابة هي وسيلة للتفكير وليست هي التفكير. فكثير من الذين يقرأون لا يفكرون، وكثير من الذين يقرأون ويفكرون لا يستقيم لديهم تفكير، ولا يصلون إلى الأفكار التي عبر عنها الكلام. ومن هنا كان من الخطأ أن يظن أحد أن تعلُّم القراءة والكتابة يعلم الناس أو ينهض الأمم. فكان من الخطأ أن توجد عناية بإزالة الأمية من أجل تعليم الناس وأن يوجه الجهد لمحو الأمية من أجل إنهاض الشعب أو الأمة. لأن القراءة والكتابة لا تغذي العقل بشيء، ولا تبعث لا في النفس ولا في العقل أي دافع للتفكير، لأن التفكير يوجده الواقع والمعلومات السابقة. والقراءة ليست واقعاً يفكر فيه، ولا معلومات يفسر بها الواقع فلا قيمة لها في التفكير، وإنما هي تعبير عن الأفكار فمجرد قراءتها لا توجد الأفكار في الذهن ولا تبعث على التفكير. وما هي إلا تعبير عن الأفكار، فإذا كان القارىء يحسن فهم هذا التعبير وجدت لديه الأفكار من إحسان فهمه لا من القراءة وإذا كان لا يحسن الفهم، لا توجد لديه أفكار ولو قرأ ساعات أو سنين. ولذلك لا بد من بحث التفكير بالنصوص وكيف تفهم هذه النصوص.
إن أهم النصوص التي تسطر أربعة نصوص هي: النصوص الأدبية، والنصوص الفكرية، والنصوص التشريعية، والنصوص السياسية. والتفكير في كل منها أي فهمه يختلف عن الآخر، وإن كان فهم جميعها يسير على طريقة واحدة هي الطريقة العقلية. ولم تذكر النصوص العلمية لأنها تكاد تكون نصوصا خاصة بالعلماء في العلوم التجريبية، ولا يكاد يعنى بها غيرهم. أما النصوص الأربعة فهي مطروحة لجميع الناس وفي إمكان كل واحد أن يفهمها إذا تيسرت له وسائل الفهم.
أما النصوص الأدبية، فإنها نصوص موضوعة للذة وهز المشاعر وإن حوت معارف يستفيد منها العقل، ولذلك هي تعنى بالألفاظ والتراكيب أكثر من عنايتها بالمعاني. والمعاني وإن كانت لا بد أن تكون مقصودة للشاعر والأديب، ولكن القصد الأول هو الألفاظ والتراكيب. صحيح أن الألفاظ تدل على معان والتراكيب تدل على معان، ولكن الشاعر والأديب يصب جهده على الألفاظ والتراكيب لأداء هذه المعاني. صحيح أنهم يقولون إن البلاغة هي المعنى الجميل في اللفظ الجميل والتركيب الجميل، ولكن الشاعر والأديب وإن عنى نفسه بتصيّد المعاني، ولكنه يتصيّدها من أجل أن يصوغها في لفظ جميل وتركيب جميل. فاللفظ والتركيب أو صياغة المعاني إنما هي في الصورة التي يخرج بها هذا المعنى، في ذلك اللفظ أو التركيب.
فالصياغة للألفاظ والتراكيب هي التي تعتمد عليها صياغة المعاني. وصحيح أيضاً أن المراد من النصوص هو أداء المعاني، ولكن هذا في النصوص عامة. أما النصوص الأدبية فإنه ليس الغاية منها أداء المعاني فحسب، بل الغاية منها في الأصل هو إثارة القارىء والسامع، وليس إعطاءه المعنى فحسب. فالإثارة هي المقصود في الدرجة الأولى. ولذلك يختار الشاعر والأديب الألفاظ والتراكيب اختياراً، ويقصد فيها أن تتصف عبارته بالتفخيم والتعميم، والوقوف عند مواطن الجمال والتأثير، وإثارة العواطف وإيجاد الانفعالات. ولذلك تجد النصوص الأدبية تتميز بالعبارات التي تصاغ بها الأفكار وتخرج الصور، ثم العناية بالصور ثم باختيار الأفكار. فهمّه من الأفكار أن يستطيع صوغها وإخراجها في صورة مثيرة ومؤثرة. فالأصل هو التعبير وهو التصوير أو إخراج الصورة، والأفكار أداة أو وسيلة. فالتصوير والصورة هما ما يعني الشاعر والأديب نفسه بهما، ويعني نفسه بالأفكار، من حيث صلاحيتها للتصوير والصورة التي تخرج بها. لا من حيث صحتها وصدقها، بل من حيث صلاحيتها للتصوير. لأن الغاية من النص ليس تعليم الناس للأفكار بل إثارة مشاعرهم. ولذلك تصب فيها العناية على التصوير أي على التعبير، ولهذا فإن عنايتها بما يجري فيه هذا التعبير وهو الألفاظ والتراكيب، لا بما يحويه هذا التعبير إلا من حيث صلاحيته للتصوير، أي لإخراج الصورة الرائعة المثيرة.
هذا هو واقع النصوص الأدبية، وما دام هذا واقعها فإن المعلومات السابقة التي تلزم لربط الإحساس الذي يحصل من قراءة النصوص الأدبية، يجب أن تكون معلومات متعلقة بالتصوير متعلقة بالصور الأدبية حتى يدرك معنى النص، وحتى تشاهد الصورة التي أخرجت، على الوجه الذي أخرجت عليه، بمعنى أن فهم النص الأدبي يستلزم معارف سابقة عن الألفاظ وعن التراكيب، أي عن عملية التصوير وما يلزمها من أدوات ووسائل ويستلزم مِراناً على مشاهدة الصور والتمييز بينها، أي يستلزم سبق قراءة النصوص الأدبية بشكل يتربى معه الذوق والتمييز والإدراك. ولهذا فإن من لم تكن لديه معرفة سابقة بالنصوص الأدبية فإنه لا يتأتى له فهم النصوص الأدبية حتى وإن أظهر التأثر بها والتقدير لها. فالمسألة مسألة ذوق وهذا الذوق لا يتأتى إلا بعد المران وكثرة التذوق واختلاف أنواع ما يتذوق. أي إلا بعد قراءة النصوص الأدبية، والإكثار من قراءتها على مختلف أنواعها وصورها. ومتى وجد هذا الذوق وجد الفهم للنص، لأن الفهم للنص الأدبي ليس فهما لمعانيه، بل هو تذوق التركيب، ويأتي من هذا التذوق فهم المعاني. فمثلاً قول الشاعر:
خلقان لا أرضاهما لفتى
فإذا غَنِيتَ فلا تكنْ بَطِراً
تِيْهُ الغِنى ومَذَلَّةُ الفقرِ
وإذا فَقِرْتَ فَتِهْ على الدهرِ


وقول الشاعر:
إن التي زعمتْ فؤادك ملَّها
فَبِكَ الذي زعمتَ بها وكِلاكُما

خُلِقَتْ هَواكَ كما خُلِقْتَ هَوًى لها
يُبْدِي لصاحِبِهِ الصَّبابةَ كُلَّها



هو غير قول الشاعر:
وكنا إذا ما استكْرَهَ الضيفُ بالقِرى
ولا نستجمُّ الخيلَ حتى نُعِيْدَها


وغير قول الشاعر:
إذا ما غضبنا غضبةً مُضَرِيَّةً
إذا ما أعَرْنَا سيداً من قبيلةٍ



أتَتْهُ العَوالي وهْيَ بالسُّمِّ تَرْعَفُ
غوانمَ من أعدائِنا وهْيَ زُحَّفُ


هتكْنا حِجابَ الشمسِ أو قَطَرَتْ دَمَا
ذُرَى مِنْبَرٍ صَلَّى علينا وسَلَّمَا





وهذه الغيرية ليست باختلاف المعاني بل بالصورة التي أخرجها الشاعر، وبالتصوير الذي أوجده، فإنه وإن كان واحد من هؤلاء الشعراء قد هز القارىء والسامع، ولكن الهزة التي أحدثها الشاعران الأولاًن هي غير الهزة التي أحدثها الشاعران الآخران. ومثلاً قول الأديب: " يا مولاي وسيدي الذي ودادي له، واعتمادي عليه، وامتدادي منه، ومَن أبقاه الله ماضيَ حَدِّ العزم، وَارِيَ زَنْدِ الأمل. إن كنت سلبتني _ أعزك الله _ لباسَ نعمائك، أو نفضت عني كَفَّ حِياطَتِك، بعد أن نظر الأعمى إلى تأملي لك، وسمع ثنائي عليك. وأحس الجماد باستنادي اليك، لا غَرْوَ قد يَغُصُّ الماءُ شاربَهُ، ويقتلُ الدواءُ المستشفِيَ به، ويُؤتى الحَذِرُ من مأمَنه وتكون مَنِيّة المتمني في أمنيته، والحَيْنُ قد سبق جهد الحريص ".
وقول الأديب " الكتاب وِعاءٌ مُلىء علماً، وظرْفٌ حُشي ظَرَفاً، وإناء شُحِنَ مِزاحاً وجِدّاً. وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت ضحكت من بوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فوائده ".
هو غير قول الأديب: " والعلم لا يعرف الكلمة الأخيرة في مسألة من مسائله، وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة، لها قيمتها حتى يكشف البحث عما يزيل هذه القيمة أو يغيرها ".
وغير قول الأديب: " فالأفكار متنوعة والآراء متعددة، وقضايا كل عصر تخالف ما قبلها، ويراها الباحث فيظنها أول وهلة جديدة لم ترتبط بما قبلها برباط، ولم تتصل به أية صلة فيعمل فكره فيما عسى أن يكون بينهما من قرابة أو نسب، وما قد يصل بينهما من سبب ".
وهذه الغيرية ليست باختلاف المعاني بل بالكيفية التي أُدّيت بها هذه المعاني وبالصور التي يحاول كل منهما أداءها. فالأديبان الأولاًن: أحدهما يستعطف، والآخر يصف كتاباً. وكل منهما قد أدى المعنى الذي يريده بكيفية خاصة وأعطى صورة خاصة. والأديبان الآخران: أحدهما يتحدث عن العلم والثاني يتحدث عن الأفكار. وكل منهما يؤدي المعنى بكيفية غير الكيفية التي أدى بها الأديبان الأولاًن.
ولكنْ كل منهم جميعاً لم يكن يبحث عن المعاني، وإنما كان يهتم بالتركيب والألفاظ وكانت المعاني وسائل لأداء الصورة التي يريد إبرازها. فحين يريد المرء أن يفهم هذه النصوص، شعرية كانت أو نثرية. لا يصح أولاً أن يجهد نفسه بالمعاني، بل يجب أن يوجه الجهد إلى فهم الألفاظ والتراكيب، ويأتي فهم المعاني تبعا لذلك، ومن هنا لا بد أن تكون معلوماته السابقة متعلقة بالألفاظ والتراكيب لا بالمعاني. ولأجل أن تتكون لديه معلومات في ذلك، لا بد من أن يقرأ النصوص الأدبية كثيراً، وأن يحاول نقدها وأن يجهد في الوقوف على أسرار تراكيبها إلى أن يتكون عنده الذوق، ومن وجود الذوق تتكون المعلومات. ولذلك فإن فهم النصوص الأدبية، لا يحتاج إلى درس وتحصيل ولا إلى معلومات عن المعاني التي تحويها النصوص، وإنما يحتاج إلى تكوين ذوق في الدرجة الأولى، وهذا الذوق إنما يتكون بكثرة قراءة النصوص الأدبية، حتى توجد النشوة من قراءتها، فيكون الذوق قد تكون لدى الإنسان. وفهم النصوص الأدبية لا يحتاج إلى معرفة بالنحو والصرف ولا معرفة بعلوم البلاغة من معاني وبيان وبديع، ولا يحتاج إلى فقه اللغة وعلم الوضع، فإن هذه وأن استحسن الإلمام بها ولكن لا يستحسن التبحر فيها. وإنما يحتاج إلى شيء واحد هو كثرة قراءة النصوص، حتى يتكون لديه الذوق.
هذه هي كيفية التفكير في فهم النصوص الأدبية. وهي أن فهمها يحتاج إلى وجود ذوق سابق، أي معرفة بطبيعة النصوص ينتج عنها تكون الذوق. فمعلوماتها السابقة هي وجود الذوق، والطريق إليه هو الإكثار من قراءة النصوص الأدبية حتى يتكون هذا الذوق. وإذا لم يوجد الذوق فإنه لا يمكن فهم النصوص الأدبية، أي لا يكون التفكير بها منتجاً. صحيح أنه قد يخرج بإدراك للفكر الذي تحويه، وقد يخرج برؤية لما تهدف إليه، ولكنه لا يخرج بفهم لها، ولا بالوقوف عليها. لأنه لم يتذوقها ولم يعرف طعمها، وإذا لم يتذوقها ويعرف طعمها، فإنه لم يفهمها. فالنص الأدبي فهمه أن تهتز إليه، وأن يثيرك ويؤثر فيك. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان هناك ذوق لدى من يقرأ هذه النصوص. ومن هنا كان ما يلزم لفهم النصوص هو وجود الذوق.
أما النصوص الفكرية فإن المعارف العقلية هي الأساس في بناء النص، والعناية فيه موجهة إلى المعاني أولاً ثم إلى الألفاظ والتراكيب. وهو لغة العقل لا لغة العاطفة. والغرض منه أداء الأفكار لا سيما الحقائق، قصد خدمة المعرفة وإثارة العقول. والكلمات والتراكيب فيه تتميز بالدقة والتحديد والاستقصاء. وهو يقوم على العقل بغض النظر عن العواطف، وعلى نشر الحقائق الفكرية والمعارف التي يحتاج الوصول إليها إلى جهد وتعمق. ولذلك فإن النصوص الفكرية تخالف النصوص الأدبية تمام المخالفة. ذلك أن النص الأدبي لا يقف عند الحقائق والمعارف، ولا يقصد منه تغذية العقل بالأفكار. وإنما يحاول تقريب هذه الحقائق إلى الأذهان، ولكنه يختار أبرزها وأهمها، أي يختار ما يستطيع أن يجد فيه مظهراً لجمال ظاهر أو خفي، أي يختار ما يوجد التأثر والانفعال، وتكون الألفاظ والتراكيب التي تؤدي هذه الأفكار على وجه يثير القراء ويثير السامعين، فيهز مشاعرهم، ويبعث فيهم ما يقتضيه هذا الانفعال من غبطة ورضا، أو سخط وغضب. وهذا بخلاف النص الفكري، فإنه يقصد به تغذية العقل بالأفكار، فهو يقف عند حد الحقائق والمعارف بغض النظر عن كونها تهز المشاعر أو لا تهزها. فهو يتقصد اجتلاء الأفكار وليس تقريبها. وحسن إبرازها، وليس ما فيها من جمال. وما يوجد قناعة العقل ودقة الأداء. ولا يعنى أبداً بما يثيره هذا من سخط أو رضا، من سرور أو غضب. بل يعنى بأداء الفكر كما هو، ويجعل صورة الفكر واضحة وليس صورة التركيب. ومن هنا كان فهم النصوص الفكرية يخالف كل المخالفة فهم النصوص الأدبية.
والتفكير في النصوص الفكرية، أي فهمها لا يتأتى إلا بوجود معلومات سابقة عن موضوع النص، فإذا لم توجد هذه المعلومات السابقة المذكورة، لا يمكن أن يفهم النص لأنه يعبر عن واقع معين فإذا لم توجد لديه معلومات سابقة يفسر بها هذا الواقع، فإنه لا يمكن أن يفهمه ولا بحال من الأحوال. والأسلوب الفكري، لا بد أن تكون المعلومات السابقة لفهمه مما يكون مدلولها مدركاً، فإذا كانت المعلومات السابقة قد عرفت مجرد معرفة دون أن يكون مدلولها مدركاً واقعه، فإنه لا يمكن فهم النص الفكري. لأن النص الفكري يعبر عن فكر، له واقع وله مدلول، وليس مجرد فكر فإذا فهم الفكر فهماً لما يدل عليه، لا إدراكاً لواقعه، ولا رؤية لمدلوله فإنه لا يكون معلومات سابقة يمكن أن يفسر الواقع بها. وإنما تكون مجرد معلومات ولا تنفع في التفكير، أي لا تنفع في الفهم للنص الفكري. فشرط التفكير بالنص الفكري ليس وجود معلومات سابقة فقط، بل وجود إدراك لواقعها وتصور حقيقي لمدلولها. فأنت حين تقرأ في كتاب فكري سواء كان بحثاً في فكر أو بحثاً في موضوع أو بحثاً في مسألة فإن نصوص هذا الكتاب نصوص عربية، وألفاظه ألفاظ عربية، وتراكيبه تراكيب عربية. وأنت عالم باللغة العربية. ولكن علمك بالعربية وإن ساعدك على فهم معاني الألفاظ والتراكيب، ولكنه لا يساعدك على فهم مدلولات الأفكار التي صيغت بهذه الألفاظ والتراكيب. فلأجل فهم هذه الأفكار لا بد أن تكون لديك معلومات عنها، ولا بد أن تكون هذه المعلومات مدركاً واقعها ومنصوراً مدلولها. وإلا فهمت الكلام فهماً لغوياً، وقد يكون فهمك مطابقاً لما تدل عليه الأفكار، وقد يكون معاكساً له، ولكنه على كل حال ليس فهماً للفكر، وإنما هو فهم لغوي.
فمثلاً حين تقرأ هذا النص " والواعي سياسياً يتحتم عليه أن يخوض النضال ضد جميع الاتجاهات التي تناقض اتجاهه، وضد جميع المفاهيم التي تناقض مفاهيمه. في الوقت الذي يخوض فيه النضال لتركيز مفاهيمه وغرس اتجاهاته " وهو من النصوص الفكرية، فإنه لا يكفي أن تفهم معناه في اللغة العربية حتى تفهمه، ولا يكفي الوقوف على مدلولات ألفاظه وتراكيبه حتى تقف على معناه بل لا بد أن يكون واقع التدبر السياسي من زاوية خاصة، واضحاً لديك ومتصوراً مدلوله عندك.
ولا بد أن يكون واقع الاتجاهات وما تدل عليه مدركاً ومتصوراً لديك. وواقع نضال هذه الاتجاهات باتجاهاتك، وواقع غرس اتجاهاتك في الناس مدركاً ومتصوراً لديك الخ، أي لا بد من أن تكون المعلومات السابقة عن الوعي السياسي وعن النضال وعن الاتجاهات وعن المفاهيم متصوراً واقعها ومدركاً مدلولها. حتى يتأتى فهم هذا النص. وإذا لم يحصل ذلك، وظلت المعلومات معلومات مجردة أو ملاحظاً فيها مدلولها كمعان لا كواقع فإنه لا يمكن فهم هذا النص. وإذا لم يفهم لا يستفاد منه ولو حفظ عن ظهر قلب. ولذلك فإن النصوص الفكرية، كالبناء لا يمكن إزالة حجر منه وتبقى صورة البناء كما هي. فلا يمكن نقل حرف منه من مكان إلى مكان، ولا يمكن استبدال كلمة بكلمة أخرى، بل لا بد من المحافظة الكاملة على النص كما هو. لأن الواقع الذي يراد منه أي مدلول الفكر الذي يراد أداؤه واقع معين وصورة معينة، فإذا تغير شيء من الواقع ومن الصورة يتغير الفهم كلياً أو جزئياً. ففهم النص الفكري يقضي بإدراك مدلوله وإدراك مدلوله يقضي بالمحافظة على ألفاظه وتراكيبه.
نعم إن النص الفكري قد يصاغ بما يصاغ به النص الأدبي، فيلاحظ تأثيره على المشاعر إلى جانب تقصي الحقائق وبلورتها، ولكنه على أي حال نص فكري وليس نصاً أدبياً. فإن شرط النص الفكري ليس عدم تأثيره على المشاعر، بل الوصول إلى الحقائق سواء أثرت على المشاعر أم لا فملاحظة تأثير النص الفكري على المشاعر لا تخرجه عن كونه نصاً فكرياً، بل يبقى نصاً فكرياً ما دامت العناية به موجهة إلى الفكر وكان الفكر هو القصد الأساسي منها. وإذا لوحظ في النصوص الفكرية تأثيرها على المشاعر فإنه لا يختلف حال فهمها عن حاله فيما لو لم يلاحظ ذلك. بل لا بد لفهمها من معلومات سابقة عن الأفكار ومن إدراك لواقع الأفكار وتصور لمدلولها.
صحيح أن النصوص الفكرية قد تكون صالحة لكل الناس، وفيها القدرة على أداء الأفكار لكل الناس مهما كانت ثقافتهم، فهي على عمقها ممكنة الفهم لكل الناس، ولكن مثل هذه النصوص وإن كان يمكن أن يأخذ كل واحد من الناس ما يقدر على فهمه منها، ولكنها في عمقها ليس في متناول كل الناس أن يفهموها، نعم إن الناس يأخذون منها ما في قدرتهم فهمه ولكن ليس كل الناس يقدر على التفكير بها أو فهمها. لأن النصوص الفكرية، إذا لم توجد معلومات سابقة في مستواها عنها، لا يمكن فهمها، وإذا لم يكن واقع أفكارها مدركاً، ومدلولات أفكارها متصورة، فإنه لا يمكن الاستفادة منها وتنفيذ أفكارها. فكون كل الناس قادراً على أن يأخذوا منها كل حسب قدرته على الفهم، فإن هذا لا يعني أن كل الناس قادرون على فهم هذه النصوص. فإن الذين لا توجد عندهم معلومات سابقة في مستواها، لا يمكن أن يفهموها ولا بحال من الأحوال.
وقد يقال هنا إن المعلومات السابقة كافية لتكوين الفكر متى وجد الحس، وهذا يعني أن النص الفكري كاف لأن يفهم، أن تكون لدى الإنسان معلومات سابقة يفسر بها الواقع الذي يتضمنه النص. والجواب على ذلك، هو أن المعلومات السابقة يراد بها أن يفسر الواقع الذي يتضمنه النص، ولا يمكن أن يفسر بها الواقع إلا إذا كانت في مستواه، فإذا كانت المعلومات السابقة هي المعلومات اللغوية فإنها لا تكفي إلا إلى التفسير اللغوي ولا تكفي لتفسير الفكر، وإذا كانت المعلومات السابقة عن الحكم بأنه القوة، فإن هذه لا تكفي لفهم معنى الحكم، بل وقد تضلل عن فهم معنى الحكم. وإذا كانت المعلومات السابقة عن المجتمع بأنه ناس وعلاقات، فإنها لا تكفي لفهم المجتمع فهماً يمكن من تغييره أو المحافظة عليه، لأنها ليست في مستوى ما يعنيه المجتمع. وهكذا فإن المعلومات السابقة حتى يدرك النص الفكري، لا بد أن تكون في مستوى الفكر الذي يحويه النص، لا مجرد معلومات عنه.
وقد يقال إذا كان يشترط لفهم النص الفكري أن تكون المعلومات السابقة لفهم النص، في مستوى الفكر الذي يريد أن يفهمه، فمن أين يأتي اشتراط أن يدرك واقعه، وأن يتصور مدلوله إلى جانب أن تكون المعلومات السابقة في مستواه؟ والجواب على ذلك أن فهم النص الفكري ليس المراد منه التلذذ به، ولا الوقوف على معناه. بل النص الفكري يفهم ليؤخذ، أي يفهم ليعمل به، وما لم يكن كذلك فإنه لا فائدة منه ووجوده لا قيمة له. لأن الفكر يوقف عليه ليؤخذ لا لمجرد المعرفة. وأخذه لا يتأتى إلا بإدراك واقعه وتصور مدلوله. ومن هنا يشترط في فهم النص الفكري إلى جانب المعلومات السابقة ثلاثة شروط: أحدها أن تكون المعلومات السابقة في مستوى الفكر الذي يراد فهمه، وثانيها أن يدرك واقعها كما هو إدراكاً يحدده ويميزه عن غيره، وثالثها أن يتصور هذا الواقع تصوراً صحيحاً يعطي الصورة الحقيقية عنه. وبدون هذه الثلاثة مجتمعة لا يمكن فهم النص الفكري، أي لا يمكن فهم الفكر. وبعبارة أخرى لا يمكن أخذه لأن فهم الفكر يعني أخذه وليس فهم معناه. وأقرب مثال على ذلك أفكار الإسلام من عقائد وأحكام فإنه لما نزل على العرب، ونزل منجماً بحسب الوقائع فإنهم فهموه وأخذوا به، لا لأن لغتهم كانت تمكنهم من فهمه، بل لأنهم أدركوا واقع أفكاره، وتصوروا مدلولاتها، فأخذوها بعد هذا الإدراك وذلك التصور، ولذلك أثر فيهم وقلبهم رأساً على عقب، فتغيرت قيمة الأشياء في نظرهم، فارتفعت قيمة أشياء وانخفضت قيمة أخرى، وأصبحت مقومات الحياة في نظرهم غيرها بالأمس ولكن هؤلاء العرب أنفسهم حين فقد لديهم إدراك واقع الأفكار، وتصور مدلولاتها، فإنهم فقدوا فهم هذه الأفكار، أي فقدوا أخذها ولذلك لم تعد تؤثر فيهم، وبالرغم من أنه يوجد لديهم محدثون أعلم من مالك، وفقهاء أوسع علماً من أبي حنيفة، ومفسرون أكثر إحاطة من ابن عباس، ومع ذلك فإنه لا يوجد فيهم من هو قريب ممن كانوا في المدينة أيام مالك، ولا من كانوا في عصر ابن عباس، ولا ممن عاشوا في عهد أبي حنيفة. وليس ذلك ناتجاً عن التقصير في معرفة الأفكار، بل هو نتيجة لعدم إدراك واقعها وعدم تصور مدلولها. ولذلك فإنه للتفكير بالنصوص الفكرية، فإنه لا يكفي وجود معلومات سابقة في مستواها، بل لا بد أن يكون إلى جانب ذلك إدراك لواقعها وتصور لمدلولها.
وفهم النصوص الفكرية لا يعني أن يكون لأخذها، بل يكون كذلك لرفضها ومحاربتها. فالأخذ هو المقصود، وإذا كانت ليس مما يؤخذ فإنها تكون مما يترك أو مما يجب أن يحارب. فإذا لم يوجد إدراك لواقعها وتصور لمدلولها، فإن الأمر قد يؤدي إلى الانحراف، فيؤخذ ما ينبغي أن يترك ويحارب، ويترك ويحارب ما ينبغي أن يؤخذ أو يوقف منه موقف المعرفة، مجرد المعرفة دون أخذ أو ترك. ولذلك لا بد لفهم النصوص الفكرية من إدراك واقعها وتصور مدلولها، لاتخاذ الموقف اللازم تجاهها، إما الأخذ وإما الترك والمحاربة. واشتراط إدراك واقع الأفكار إدراكاً يحددها ويميزها، وتصور مدلولها تصوراً صحيحاً، هو الذي يعصم الفكر من الزلل والانحراف، ويجعل المرء يقرر موقفه من هذه الأفكار تقريراً سليماً. فإن هذه الأفكار، لا يقف ضررها عند حد الاقتصار على المعرفة، بل قد يصرف من يأخذها عن أعمال أساسية في حياته، وقد يجعله يزل وينحرف، أو يضل ضلالاً كبيراً. وأقرب مثال على ذلك، ما فعلته دراسة الفلسفة اليونانية لدى كثير من علماء المسلمين، وما فعلته الأفكار الرأسمالية والأفكار الشيوعية لدى كثير من أبناء المسلمين، فإن ذلك كله إنما كان لأن إدراك الواقع لم يكن إدراكاً يحدده ويميزه، ولأن تصور مدلول الأفكار لم يكن تصوراً صحيحاً.
ولنأخذ الفلسفة اليونانية، فإنها كانت موجودة لدى نصارى الشام والعراق. وكان المسلمون يحملون الدعوة إلى الإسلام لهؤلاء النصارى، ولا سيما بعد أن أصبحوا تحت حكم الإسلام وتحت سيطرته. فكان النصارى في نقاشهم للمسلمين يستعملون الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني، فاستعمل المسلمون هذه الفلسفة وهذا المنطق ليردوا على هؤلاء النصارى، دون أن يدركوا الأفكار التي تحويها هذه الفلسفة، ودون أن يروا المغالطات التي تدخل في مقدمات المنطق. فأدت هذه الدراسة التي كانت من أجل نشر الإسلام إلى أن انصرف لها بعض علماء المسلمين من أجل اللذة التي يجدونها في دراستها، وانصرف إليها علماء مسلمون آخرون من أجل الرد على النصارى، والبرهنة على صحة أفكار الإسلام. أما الفريق الأول من العلماء فإنهم صاروا يسيرون في طريق فلاسفة اليونان، وأخذوا الفلسفة اليونانية وصارت ثقافتهم واعتنقوا آراءها مع مراعاة للإسلام حسب ما تراه هذه الأفكار الفلسفية، وبذلك نشأ الفلاسفة المسلمون، فمنهم من زل وانحرف، ومنهم من ضل ضلالاً كبيراً. وكلا الفريقين: المنحرفون والضالون قد تركوا الإسلام وأصبحوا كفاراً، ولذلك فإن جميع من يسمون بفلاسفة المسلمين أو فلاسفة الإسلام كفار، لا فرق بين ابن سيناء والفارابي، ولا بين ابن رشد والكندي.
وأما الفريق الثاني من علماء المسلمين، الذين درسوا الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني، فإنهم انقسموا فريقين: فريق يتخذ الفلسفة اليونانية أساساً، ويؤول أفكار الإسلام بما يتفق وأفكار هذه الفلسفة، ويطبق الأفكار الفلسفية على أفكار الإسلام وهؤلاء هم المعتزلة. وفريق قد وقف من هذه الأفكار موقف المعارض والناقد، وصار يحاول تصحيحها ويرد عليها، وهؤلاء من يسمون بأهل السنة، فكان الجدال بين هذين الفريقين. وشغلوا بهذا الجدال عن حمل الدعوة الإسلامية، وصرفوا عن العمل الأساسي الذي فرضه الله عليهم، ألا وهو حمل دعوة الإسلام إلى غير المسلمين، بمحاولة تصحيح عقائد المسلمين، إما باستخدام أفكار الفلسفة اليونانية للبرهنة على صحة أفكار الإسلام، ولبلورتها، وإما بالرد على هذه الأفكار. وشغلوا الناس بهذا أجيالاً وقروناً. وهؤلاء، وإن كانوا جميعاً مسلمين، ولكنهم بسبب الفلسفة اليونانية، صرفوا عن حمل الدعوة إلى الإسلام، لغير المسلمين.
ثم لم يقتصر الأمر على ذلك، بل وجدت من جراء ذلك جماعات أخرى من أمثال الجبرية، والمرجئة، والقدرية، وغيرها. وأدى ذلك إلى وجود ملل ونحل وأفكار وجماعات بين المسلمين، فكانت بلبلة أي بلبلة، حتى صار المسلمون عشرات الفرق، وعشرات المذاهب الفكرية. كل ذلك من جراء دخول الفلسفة اليونانية لبلاد الإسلام، وإقبال الكثير من المسلمين على دراستها دون إدراك يحدد أفكارها ويميزها، ودون تصور صحيح لمدلول تلك الأفكار. ولولا قوة الإسلام نفسه ووقوف اهل السنة والجماعة بصدق وإخلاص في الوقوف في وجه الأفكار ببيان الواقع الذي تدل عليه، وتصوير مدلولاتها تصويراً صحيحاً، وامتشاق الحسام في وجه الكفرة من هذه الفرق والمذاهب، لولا ذلك لذهب الإسلام ولضاع من جراء الفلسفة اليونانية وما أوجدته من أفكار وآراء.
أما الأفكار الرأسمالية والاشتراكية فإن خطرها أمر مشاهد محسوس، وضلال أفكارها قد شمل الكثير من أبناء المسلمين وخطأ مفاهيمها قد تفشى حتى لدى جماهير المسلمين. ولسنا بحاجة لإقامة الدليل، وذكر أمثلة من الأفكار الضالة والأفكار الخاطئة فإن الواقع المشاهد في بلاد الإسلام، ولا سيما الذين وعوا على الحياة بعد الحرب العالمية الثانية، يُرينا ما أحدثته هذه الأفكار من تخريب في عقول المسلمين ومن صرف للمسلمين عن العمل من أجل الإسلام.
لذلك فإن التفكير بالنصوص الفكرية يجب أن يعرف تمام المعرفة وأنه لا يكفي فيها مجرد وجود المعلومات السابقة، بل لا بد أن تكون هذه المعلومات في مستوى الفكر، وأن يكون إدراك واقعها موجوداً بشكل يحدده ويميزه، وأن يكون تصور مدلولها تصوراً صحيحاً يعطي الصورة الحقيقية عن ذلك المدلول.
نعم إن الإسلام لم ينه عن الدراسة الفكرية بل أباحها، ولم ينه عن أخذ الأفكار بل أباح أخذها، ولكن الإسلام قد جعل العقيدة الإسلامية قاعدة للأفكار ومقياساً لأخذها أو رفضها، فإنه لا يجيز أخذ فكر يتناقض مع هذه القاعدة، وإن جاز قراءة النصوص التي تحويه، ولا يبيح أخذ فكر إلا إذا كانت القاعدة الفكرية تبيح أخذه. فحتى يدرك أن الفكر يناقض القاعدة الفكرية أو يوافقها، فإنه لا يمكن اتخاذ الموقف منه إلا بعد إدراك واقع الفكر إدراكاً يحدده ويميزه، وتصور مدلوله تصوراً صحيحاً، وبدون هذا لا يمكن قياس هذا الفكر بالقاعدة الفكرية، وبالتالي لا يمكن اتخاذ الموقف الصحيح منه. ولذلك فإن التفكير في النصوص الفكرية، أياً كانت لا بد أن تكون لدى من يريد التفكير بالنص الفكري، أن تكون لديه معلومات سابقة في مستوى هذا الفكر، وأن يكون لديه علاوة على ذلك إدراك لواقعه إدراكاً يحدده ويميزه وتصور لمدلوله تصوراً صحيحاً يعطي الصورة الحقيقية له.
واما النصوص التشريعية فإن الوقوف على ما تحتويه من أفكار، والوصول إلى استنباط الأفكار لا يكفي فيه أن يفهم الألفاظ والتراكيب وما تدل عليه، ولا يحتاج إلى معلومات سابقة أية معلومات، وإنما يحتاج إلى أمرين اثنين معاً. يحتاج أولاً إلى معرفة دلالة الألفاظ والتراكيب ثم المعاني التي تدل عليها هذه الألفاظ والتراكيب، ثم استعمال معلومات معينة للوقوف على الفكر أو استنباط الفكر. أما معرفة معاني الألفاظ والتراكيب فإنه يحتاج إلى معرفة باللغة، ألفاظاً وتراكيب، ويحتاج إلى معرفة اصطلاحات معينة، ثم بعد ذلك يأتي الوقوف على الأفكار والأحكام. وهذا وإن كان يمكن أن يطبق على كل تفكير تشريعي. ولكننا حين نتحدث عن التفكير بالتشريع لا نعني أي تشريع، وإنما نعني التشريع الإسلامي ليس غير. وذلك أنا بوصفنا مسلمين لا يحق لنا أن نبحث إلا في التشريع الإسلامي. لأن الأمر الجازم الذي تحتمه عقيدتنا يحصر تفكيرنا بالتشريع الإسلامي وحده. وأما غير التشريع الإسلامي فلا يحق لنا أن نبحثه حتى ولا أن نقرأه. فإن التشريع حين يقرأ إنما يقرأ من أجل الأخذ بما جاء فيه وليس قراءة متعة ولذة. وحين يبحث ويجري التفكير فيه إنما يفعل ذلك من أجل أخذه، ويحرم علينا أخذ شيء من غير الإسلام، ويحرم علينا أن نأخذ غير الحكم الشرعي. وإذا جاز لنا أن نقرأ وأن نبحث في النصوص غير التشريعية، كالنصوص الأدبية والنصوص الفكرية والنصوص السياسية، فإنه لا يحق لنا أن نقرأ أو نبحث غير النصوص التشريعية الإسلامية. فالنصوص الأدبية إنما تقرأ وتبحث للمتعة واللذة، والنصوص الفكرية حين تقرأ نكون قد اتخذنا القاعدة الفكرية مقياساً لما فيها من أفكار، والنصوص السياسية إنما تقرأ لمعرفة كيفية رعاية الشؤون الخارجية. فكلها لا يوجد ما يمنع من قراءتها وبحثها ودرسها والتفكير فيها. أما النصوص التشريعية فإنها تقرأ وتبحث للأخذ منها. وبما أنه لا يحل لنا أن نأخذ غير الحكم الشرعي، فإنه تبعاً لذلك، لا يحق لنا أن نقرأ أو نبحث أو نفكر بغير التشريع الإسلامي. وإذا كانت الأفكار تبنى على العقيدة فتكون مقياساً لصحة هذه الأفكار وعدم صحتها، أي لتعين الموقف منها للأخذ أو الرفض، فإن الأحكام الشرعية تنبثق انبثاقاً من العقيدة، أي تستنبط وتؤخذ من العقيدة، فما انبثق عن هذه العقيدة وكان حكماً شرعياً كان وحده هو الذي يؤخذ وما لا ينبثق عنها يرفض كله، سواء وافق العقيدة أو خالفها. لذلك فإنا لا نأخذ ما يوافق الإسلام وإنما نأخذ فقط ما هو إسلام ليس غير. لأن الحكم الشرعي ينبثق عن العقيدة انبثاقاً ويؤخذ منها ولا يبنى عليها، بخلاف الفكر فإنه يبنى على العقيدة بناء. فالله تعالى حين قال " اقرأ " أباح لنا القراءة إباحة مطلقة، ولكنه حين أمر بأخذ معالجات الحياة أي الأحكام الشرعية، حصر الأخذ بها وقرنه بالإيمان وجعل الأخذ من غيره أخذاً من الطاغوت، فتكون النصوص التي جاءت بموضوع التشريع مخصصة للقراءة، فتكون إباحة القراءة خاصة بغير ما هو متعلق بالتشريع، أما التشريع أي الأحكام والمعالجات، فإن الإباحة لا تشملها لوجود النصوص الدالة على عدم جواز الأخذ من غيرها. ولذلك فإنا لا نقرأ غير التشريع الإسلامي، ولا نبحثه ولا نفكر فيه. ومن هنا فإنا حين نبحث التفكير بالتشريع إنما نبحث التشريع الإسلامي ليس غير.
والتفكير بالتشريع وإن كان يحتاج إلى معرفة اللغة العربية والأفكار الإسلامية، ولكنه يحتاج قبل ذلك، وبعد ذلك إلى معرفة الواقع والفقه فيه، ثم معرفة الحكم الشرعي ثم تطبيق هذا الحكم الشرعي على الواقع، فإن انطبق عليه كان حكمه، وإن لم ينطبق عليه لم يكن حكمه، فيبحث عن حكم آخر ينطبق عليه. لذلك فإن التفكير بالتشريع لا يتأتى لكل الناس، لأنه يحتاج إلى أمور كثيرة تتعلق بالألفاظ والتراكيب، وتتعلق بالأفكار التشريعية أي بمعلومات معينة هي المعلومات التشريعية ويحتاج إلى فهم الواقع، أي واقع الحكم الذي يؤخذ أو الذي يستنبط. فالتفكير بالنصوص التشريعية لا يكفي فيه العناية بالألفاظ والتراكيب كالتفكير بالنصوص الأدبية، ولا العناية بالمعاني والأفكار كالتفكير بالنصوص الفكرية، ولا العناية بالحوادث والوقائع والظروف كالتفكير بالنصوص السياسية. وإنما لا بد أن توجه العناية للألفاظ والتراكيب والمعاني والأفكار والوقائع والحوادث التي يراد أخذ الحكم لها دفعة واحدة، أي يحتاج إلى كل ما تحتاج إليه سائر النصوص. لذلك كان التفكير به أكثر صعوبة من التفكير بأي نص آخر، وكان في حاجة إلى عمق واستنارة في وقت واحد، فلا يكفي فيه العمق، وإن كانت تكفي فيه الاستنارة، لأنها لا تكون إلا عن عمق.
والنصوص التشريعية يختلف التفكير بها باختلاف الغاية من هذا التفكير، لأن الغاية من التفكير بالنصوص التشريعية، إما أن تكون لأخذ الحكم الشرعي وإما أن تكون لاستنباط الحكم الشرعي، وفرق بين الاثنين. فالتفكير لمعرفة الحكم الشرعي فقط وإن كانت تحتاج إلى معرفة معاني الألفاظ والتراكيب، ولكنها لا تحتاج إلى معرفة النحو والصرف، ولا متن اللغة أو علوم البلاغة، وإنما يكفي فيها معرفة القراءة باللغة العربية ولو لم يعرف الكتابة. فقراءة النص باللغة العربية وفهم ما يقرأ كافية في طلب معرفة الأحكام الشرعية من النصوص، وهي وإن احتاجت إلى معرفة الأفكار الشرعية أي معلومات سابقة عن الشرع، ولكنها يكفي فيها معرفة المعلومات الأولية. التي تلزم للمعرفة فلا تحتاج إلى معرفة علم أصول الفقه، ولا معرفة الآيات والأحاديث، فيكفي فيها أن يفهم الحكم الشرعي من غيره، من مجرد القراءة. وكذلك لا يلزم فيها معرفة الواقع ما هو، بل يكفي أن يعرف أن هذا الحكم لهذا الواقع. فحين يقرأ ليعرف حكم لحم العلب ما هو فإنه يكفي أن يعرف أن لحم الميتة حرام، وأن يعرف أن لحم العلب لحم ميتة لأنه لم يذبح ذبحاً شرعياً. وحين يقرأ ليعرف حكم الكلنيا، أي ما يسمى بالكولونيا يكفي أن يعرف أن المسكر حرام، وأن الكلنيا مسكر وهكذا. فإن التفكير في معرفة الحكم الشرعي من النصوص الشرعية فإنه يكفي فيه وجود معلومات سابقة كافية لتفسير واقع الحكم الذي يبحث عنه.
أما التفكير لاستنباط الحكم الشرعي فإنه لا يكفي فيه مجرد القراءة حتى يستنبط، وإنما يحتاج إلى معرفة بالأمور الثلاثة، وهي الألفاظ والتراكيب، والأفكار الشرعية، والواقع للفكر أي للحكم، معرفة تمكنه من الاستنباط لا مجرد معرفته. فلا بد أن يكون عالماً باللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة الخ، وأن يكون عالماً بالتفسير والحديث وأصول الفقه، ولا بد أن يكون عالماً بالواقع الذي يريد استنباط الحكم له. وليس معنى كونه عالماً أن يكون مجتهداً في هذه المواضيع، بل يكفي أن يكون ملماً مجرد إلمام. فهو يستطيع أن يسأل عن معنى كلمة وأن يرجع إليها في القاموس، ويستطيع أن يسأل مجتهداً في النحو والصرف أو يرجع إلى كتاب في النحو والصرف ليعرف اعراب جملة أو تصريف كلمة، ويستطيع أن يرجع لعالم من علماء الحديث أو يرجع إلى كتاب من كتب الحديث ليعرف الحديث ويستطيع أن يسأل عالماً بالواقع الذي يريد فهمه ولو كان غير مسلم، أو أن يرجع إلى كتاب يبحث هذا الواقع. فلا يعني كونه عالماً أن يكون مجتهداً أو متبحراً، بل يكفي أن يكون ملماً إلماماً يمكنه من الاستنباط. وهذا معنى كونه أنه لا بد أن تكون لديه معلومات معينة، أي معلومات كافية لتمكينه من الاستنباط. ولذلك فإن الاستنباط وأن كان يحتاج إلى معلومات أكثر من المعلومات اللازمة لمعرفة الحكم الشرعي، ولكنه لا يعني أن يكون مجتهداً في كل واحد من الأمور الثلاثة اللازمة للاستنباط، بل أن يكون ملماً بمعلومات كافية عن هذه الأمور الثلاثة تمكنه من الاستنباط ومتى أصبح قادراً على الاستنباط فإنه حينئذ يكون مجتهداً، ولذلك فإن الاستنباط أو الاجتهاد ممكن لجميع الناس وميسر لجميع الناس، ولا سيما بعد أن أصبح بين يدي الناس كتب في اللغة العربية والشرع الإسلامي ووقائع الحياة ميسرة لجميع الناس يمكن الرجوع إليها والاستعانة بها للاستنباط. ولذلك فإن معرفة الأحكام الشرعية وإن كانت ميسورة لكل فرد، فإن استنباط الحكم الشرعي كذلك ميسور لكل فرد، وإن كان يحتاج إلى معرفة أكثر، أي إلى معلومات سابقة أكثر وأوسع.

وإذا كان من قبلنا قد ضيقوا على أنفسهم سبيل الاجتهاد والاستنباط، واكتفوا بمجرد المعرفة فكانوا في جمهرتهم مقلدين، وتجددت الحوادث والوقائع ولم يوجد لها حكم، فإن تصميمنا على أن نتقيد بالأحكام الشرعية ونخوض معترك الحياة على أعلى مستوى وبشكل واسع ومنفتح، يحتم علينا، وقد يسرت لنا كتب المعرفة والعلم أن نرتفع من التقليد إلى مرتبة الاستنباط، وأن نعالج جميع شؤون الحياة بالأحكام الشرعية وحدها وذلك لا يكلفنا إلا الحصول على المعرفة اللازمة للاستنباط.

صحيح أن معرفة الحكم الشرعي فرض عين، واستنباط الحكم الشرعي فرض كفاية، ولكن ضرورة تجدد الوقائع والحوادث، وتحريم الإسلام علينا أن نأخذ أي حكم غير الحكم الشرعي، يجعل فرض الكفاية هذا لا يقل لزوماً عن فرض العين. ولذلك لا بد أن يوجد في الأمة الحشد العظيم من المستنبطين والمجتهدين.

ومن هذا يتبين أن التفكير بالتشريع مع كونه أصعب أنواع التفكير، ولكنه ألزم أنواع التفكير للأمة الإسلامية، سواء التفكير لمعرفة الحكم الشرعي أو التفكير لاستنباط الحكم الشرعي. إلا أن التفكير باستنباط الحكم الشرعي، لا يصح أن يؤخذ بخفة، ولا أن يؤخذ بهذه البساطة. بل يجب أن يؤخذ بعناية واهتمام، وأن لا يقدم أحد عليه إلا إذا توفرت لديه المعلومات اللازمة له. وأن يكون ملاحظاً دائماً ما يحتاج إليه التفكير بالنصوص التشريعية من وجود معلومات كافية، في الأمور الثلاثة اللازمة له، وهي اللغة العربية والأمور الشرعية ومعرفة حقيقة الواقع، وانطباق الحكم الشرعي على ذلك الواقع. وإنه وإن كان الانطباق ليس من المعارف اللازمة للاستنباط، ولكنه نتيجة لصحة المعرفة للأمور الثلاثة.

هذا هو التفكير بالتشريع، وهو أن تكون المعلومات التي تربط بالواقع معلومات معينة ومعلومات كافية لمعرفة حكم الواقع أو لاستنباط الحكم له. وإذا كان أعداؤنا قد نجحوا في المغالطات وجعلونا نرى أن العسل خرء الذباب فنشمئز منه ونعرض عنه، أي جعلوا الفقه مبغضاً إلينا ومحتقراً لدينا حتى أعرضنا عنه، فإنه قد آن الأوان لكشف هذه المغالطة، وأن نرى أن سعادتنا وحياتنا لا تتحقق إلا بالأحكام الشرعية، أي لا نصل إليها إلا بالفقه، أي إلا بمعرفة الأحكام الشرعية واستنباطها. لا سيما وأن غير الإسلام من تشريع كالقانون المدني وغيره إنما هي شرع الطاغوت، وإنها مما نهانا عنه صريح القرآن.

ومهما يكن من أمر فإن التفكير بالنصوص التشريعية، أي التفكير بالتشريع الإسلامي يختلف كل الاختلاف عن التفكير بأية نصوص أخرى، فإنه إذا كان التفكير بالنصوص الأدبية يحتاج إلى معرفة الألفاظ والتراكيب، وبالتالي إلى ذوق يتكون من هذه المعرفة، وإذا كان التفكير بالنصوص الفكرية يحتاج إلى معرفة في مستوى الفكر الذي يراد إدراكه، وإذا كانت النصوص السياسية تحتاج إلى معرفة بالوقائع والحوادث؛ فإن التفكير بالنصوص التشريعية يحتاج إلى جميع ما تحتاج إليه جميع أنواع التفكير. لأنه يحتاج إلى معرفة بالألفاظ والتراكيب، ويحتاج إلى معرفة شرعية في مستوى الواقع الشرعي، ويحتاج إلى معرفة بالواقع والحوادث التي يطبق عليها الحكم الشرعي، سواء لمعرفة الحكم أو لاستنباطه. ومن هنا يمكن القول بان التفكير بالتشريع أكثر صعوبة من أي تفكير، وأكثر لزوماً للمسلمين.

هذا هو التفكير التشريعي، أما التفكير السياسي فإنه يختلف كل الاختلاف عن التفكير التشريعي وإن كان من نوعه. لأن التفكير التشريعي هو لمعالجة مشاكل الناس، والتفكير السياسي هو لرعاية شؤون الناس. إلا أن هناك فرقاً بين التفكيرين. وكذلك هو يناقض التفكير الأدبي كل المناقضة، لأن التفكير الأدبي إنما يعنى باللذة والنشوة بالألفاظ والتراكيب، ويطرب للمعاني وهي في قوالب الألفاظ تساق بالأسلوب الأدبي. أما بالنسبة للتفكير الفكري فإن فيه تفصيلاً. فإذا كان التفكير السياسي تفكيراً بنصوص العلوم السياسية والأبحاث السياسية فإن التفكير السياسي والتفكير الفكري يكادان يكونان نوعاً واحداً. فهما متماثلان ومتشابهان إلى حد كبير. إلا أن التفكير الفكري يشترط فيه أن تكون المعلومات السابقة في مستوى الفكر الذي يبحث، حتى وإن كانت ليست من نوعه ولكن متعلقة به، أما التفكير السياسي فإنه وإن احتاج إلى معلومات سابقة في مستوى الفكر، ولكنه يحتاج إلى معلومات سابقة في نفس الموضوع ولا يكفي أن تكون متعلقة به أو مشابهة له أو مما تصلح لتفسير التفكير. لذلك فإن التفكير بالنصوص السياسية هو من نوع التفكير بالنصوص الفكرية.
أما إذا كان التفكير السياسي، تفكيراً بالأخبار والوقائع وربطاً للحوادث فإنه يخالف جميع أنواع التفكير. ولا تنطبق عليه ولا قاعدة من قواعده. بل لا تكاد تربطه قاعدة، ولذلك هو أعلى أنواع التفكير وأصعب أنواع التفكير. أما كونه أعلى أنواع التفكير فلأنه هو التفكير بالأشياء والحوادث، والتفكير بكل نوع من أنواع التفكير، ولذلك هو أعلاها جميعاً. صحيح أن القاعدة الفكرية التي تبنى عليها الأفكار وتنبثق عنها المعالجات هي أعلى أنواع التفكير، ولكن هذه القاعدة هي نفسها فكر سياسي، وفكرة سياسية، وإذا لم تكن فكرة سياسية وتفكيراً سياسياً، لا تكون قاعدة صحيحة، ولا تصلح لأن تكون قاعدة ولذلك فإنا حين نقول إن التفكير السياسي هو أعلى أنواع التفكير، فإن ذلك يشمل القاعدة الفكرية، أي التي تصلح لأن تكون قاعدة فكرية. وأما كونه أصعب أنواع التفكير، فإنه لعدم وجود قاعدة له يبنى عليها ويقاس عليها، ولذلك فإنه يحير المفكر ويجعله في أول الأمر معرضا للخطأ الكثير، وفريسة للأوهام والأخطاء. وما لم يمر بالتجربة السياسية وبدوام اليقظة والتتبع لجميع الحوادث اليومية، فإنه من الصعب عليه أن يتمكن من التفكير السياسي. ولذلك فإن التفكير السياسي بالأخبار والوقائع يتميز عن جميع أنواع التفكير ويمتاز عليها امتيازاً ظاهراً.
فالتفكير بالنصوص السياسية، وإن كان يشمل التفكير بنصوص العلوم السياسية ونصوص الأبحاث السياسية، ولكن التفكير السياسي الحق، هو التفكير بنصوص الأخبار والوقائع، ولذلك كانت صياغة الأخبار هي التي تعتبر نصوصاً سياسية حقة. وإذا كان المرء يريد التفكير السياسي، فإن عليه التفكير بنصوص الأخبار ولا سيما صياغتها وكيفية فهم هذه الصياغة. لأن هذا هو الذي يعتبر تفكيراً سياسياً، وليس التفكير بالعلوم السياسية والأبحاث السياسية. لأن التفكير بالعلوم السياسية والأبحاث السياسية يعطي معلومات، تماما كالتفكير بالنصوص الفكرية ويعطي فكراً عميقاً أو مستنيراً، ولكنه لا يجعل المفكر سياسياً، وإنما يجعله عالماً بالسياسة، أي عالماً بالأبحاث السياسية والعلوم السياسية، ومثل هذا يصلح لأن يكون معلماً، ولا يصلح أن يكون سياسياً. لأن السياسي هو الذي يفهم الأخبار والوقائع ومدلولاتها، ويصل إلى المعرفة التي تمكنه من العمل. سواء أكان له إلمام بالعلوم والأبحاث السياسية، أو لم يكن له إلمام أن كانت العلوم السياسية والأبحاث السياسية تساعد على فهم الأخبار والوقائع، ولكن مساعدتها هذه إنما تقف عند حد المساعدة في جلب نوع المعلومات عند الربط، ولا تساعد في غير ذلك. ولهذا فإنه ليس شرطاً في التفكير السياسي.
إلا انه مع الأسف الشديد فإنه منذ أن وجدت فكرة فصل الدين عن الدولة، وتغلب على أصحابها موضوع الحل الوسط انفرد الغرب، نعني أروبا وأمريكا بإصدار المؤلفات والكتب في العلوم السياسية والأبحاث السياسية، على أساس فكرته عن الحياة وعلى أساس الحل الوسط، وعلى أساس الشكليات التي تعطي الفكر الوسط، الذي وجد للتوفيق والمصالحة. وحين جاءت الفكرة الشيوعية واعتنقتها روسيا الدولة الشيوعية، فإنه كان يؤمل أن تخرج أبحاث سياسية على أساس فكر ثابت لا على أساس الحل الوسط ولكن مع الأسف فإن روسيا ظلت ملحقة بالغرب، ولذلك فإن العلوم السياسية والأبحاث السياسية ظلت سائرة في نفس الطريق، مع اختلاف في الشكل لا في المضمون ولذلك فإنه يمكننا أن نقول إن الأبحاث السياسية والعلوم السياسية التي خرجت حتى الآن هي أبحاث سياسية لا يطمئن العقل إلى صحتها، وعلوم سياسية أشبه بما يسمى علم النفس مبنية على الحدس والتخمين فوق كون أساسها هو الحل الوسط. لذلك فإنه حين يجري التفكير في نصوص هذه العلوم والأبحاث، لا بد أن يكون المرء في حالة يقظة على الأفكار، وفي حالة حذر من الانزلاق مع أخطائها. لأنها تتضمن أفكاراً مخالفة للواقع وأبحاثاً هي غاية الخطأ. وإنا مع كوننا نفضل أن تعامل معاملة التشريع الغربي فلا تقرأ ولا تدرس لأن فيها ما هو متعلق بالتشريع وليس بالسياسة مثل أنظمة الحكم، ولكن نظراً لأنها من نوع الأبحاث الفكرية وفيها أبحاث سياسية، فإنه من هذه الجهة لا بأس من قراءتها ودراستها ولكن مع اليقظة والحذر.
ولنأخذ بعض الأفكار كنموذج لما تتضمنه الأبحاث السياسية لدى الغرب. فالقيادة في الغرب جماعية تتمثل في مجلس الوزراء، وأخذها الشرق فجعل لها شكلاً آخر، وقال بالقيادة الجماعية. وهذا مخالف للواقع وبني على الحل الوسط. لأن الملوك المستبدين في أروبا كانوا أفراداً وضج الناس من استبداد الملوك، واعتبروا سبب ذلك هو فردية القيادة، فقالوا إن القيادة للشعب لا للفرد وجعلوها في مجلس الوزراء. وهذا حل وسط، لأن مجلس الوزراء ليس الشعب ولا منتخباً من الشعب، ولأن رئيس الوزراء هو الذي يتولى قيادة الوزراء، وبذلك كانت القيادة ليست للشعب ولا للفرد بل لرئيس الوزراء ومجلس الوزراء، فكان هذا النظام حلاً وسطاً بين أن تكون القيادة للفرد وبين أن تكون للشعب. فهو ليس حلاً لموضوع القيادة، بل هو مراضاة للفريقين. وفوق ذلك فإن واقع السير أن القيادة ظلت فردية في جميع أنواع الأنظمة الديمقراطية. فهي في الواقع إما أن يتولاها رئيس الدولة كرئيس الجمهورية مثلاً، أو يباشرها رئيس الوزراء نفسه. فواقع القيادة أنها فردية ليس غير، ولا يمكن أن تكون جماعية ولا بحال من الأحوال. وحتى لو جعلت جماعية، أو سميت جماعية، فإن سير الحكم نفسه يحول القيادة إلى قيادة فردية لأنه لا يمكن أن تكون إلا فردية.
وعند الغرب جعلت السيادة للشعب، فالشعب هو الذي يشرع والشعب هو الذي يحكم والشعب هو الذي يملك الإرادة ويملك التنفيذ. وهذا مخالف للواقع ومبني على الحل الوسط. لأن الملوك المستبدين كانت لهم الإرادة، وكان لهم التقرير. فكانوا هم الذين يشرعون وهم الذين يحكمون. وضج الناس من استبداد هؤلاء الملوك. واعتبروا سبب ذلك كونهم يملكون الإرادة ويملكون التقرير، فيملكون التشريع ويملكون الحكم. فقالوا إن السيادة للشعب، فهو الذي يشرع وهو الذي يحكم. فجعلوا التشريع لمجلس منتخب من الشعب، وجعلوا التنفيذ لمجلس الوزراء ورئيس الوزراء أو لرئيس الدولة وهذا حل وسط. لأن مجلس النواب وإن كان منتخباً من الشعب ولكنه لا يشرع، وإنما الذي يشرع هو الحاكم. ومجلس الوزراء أو رئيس الجمهورية هو الذي يحكم. وهو وإن كان منتخباً من الشعب أو وافق عليه ممثلو الشعب، فإنه ليس في ذلك أن الشعب يحكم، وإنما فيه فقط أن الشعب يختار الحاكم. فكان هذا حلاً وسطاً. وفوق ذلك فإنهم يصرحون بأن السيادة للقانون، ويعتبرون الحكم الصالح هو الذي فيه السيادة للقانون. فكان هذا النظام حلاً وسطاً، ومغالطة للنفس. وفوق ذلك فإن واقع الحكم هو غير هذا. فواقع الحكم الصالح هو أن يختار الشعب حاكمه، وأن تكون السيادة للقانون، فلا سيادة للشعب مطلقاً ولا حكم للشعب ولا بحال من الأحوال.
وعند الغرب أن الحكم شيء وأن الأمور العاطفية والدينية شيء آخر، فعندهم أن سلطة الكنيسة غير سلطة الدولة، وأن الأعمال العاطفية من فعل الخيرات والعطف على الفقراء، ومؤاساة الجرحى وما شاكل ذلك، لا شأن للدولة فيها. وهذا مبني على فكرة فصل الدين عن الدولة وعلى الحل الوسط ومخالفة للواقع. لأن الملوك المستبدين كانوا يتحكمون في الكنيسة، وكانوا لا يقومون بمؤاساة الناس من جرحى ومرضى وفقراء ونحوهم. ولذلك ضج الناس. فكان الحل الوسط في فصل الكنيسة عن الدولة، وفي فصل الأعمال العاطفية عن الدولة. فنشأت عندهم سلطة للكنيسة غير سلطة الدولة، ونشأت عندهم الجمعيات الخيرية، وجمعيات الصليب الأحمر وما شاكل ذلك. ولكن لما واقع الحكم هو رعاية شؤون الناس كل الناس، والدين من الشؤونأ والأعمال العاطفية من الشؤون، ولذلك كانت الدولة تشرف على الكنائس، ولكن بأسلوب غير ظاهر، وتشرف على الجمعيات الخيرية وجمعيات الصليب الأحمر، ولكن بأساليب خفية. ولذلك كانت هذه النظرية مخالفة للواقع حقيقة، وإن كان ظاهراً وجود الفصل بين الحكم وغيره.
هذه ثلاثة أفكار كنموذج لخطأ الأفكار السياسية التي تضمنتها الأبحاث السياسية لدى الغرب. وإذا قيل هذا في الأفكار السياسية المتعلقة بالأنظمة فإنه يقال كذلك في الأبحاث السياسية المتعلقة بالأشياء والوقائع، وهذه وإن كان فيها بعض الحقائق التي لا يملك العقل مغالطة فيها، فإنها مملوءة بما يخالف الحقيقة ومملوءة بالمغالطات. فمثلاً حين يتحدثون عن السياسة الإنجليزية من أنها مبنية على ثلاثة أمور: هي علاقة إنجلترا بأمريكا وعلاقة إنجلترا بأروبا، وعلاقة إنجلترا بالدول التي كانت مستعمرات لها واستقلت، أو ما يسمى بالكومنولث، فإن حديثهم هذا صحيح، لأنه وصف لواقع لا يمكن أن تقع المغالطة فيه، ولكنهم حين يتحدثون عن السياسة الإنجليزية من حيث سلوكها في المحالفات، وموقفها من الأصدقاء أو الأعداء ونظرتها للشعوب والأمم، فإنهم فوق ما يكون في حديثهم من مغالطات وتضليل، فإنه يكون كذلك مخالفاً للواقع وجناية على الأحداث والوقائع، وقل مثل ذلك في حديثهم عن أية دولة من الدول، سواء أكانت دولة غربية أو دولة غير غربية، وسواء أكان حديثاً تاريخياً لأمور مضت أو كان حديثاً عن وقائع جارية، وحوادث تقع أمام الأعين. فإن لهم من المهارة في التضليل وتزييف الحقائق ما يخفى حتى على بعض المبصرين. ولذلك كان التفكير بالعلوم السياسية والأبحاث السياسية، أياً كانت لا يصح أن يكون إلا مع اليقظة والحذر.

أما التفكير السياسي بالوقائع والحوادث الجارية، فهو التفكير الذي يصح أن يكون تفكيراً سياسياً بما تعنيه هذه الكلمة، وهو الذي يجعل المفكر سياسياً. وهذا التفكير يحتاج إلى خمسة أمور رئيسية مجتمعة:

فأولاً: يحتاج إلى تتبع جميع الوقائع والحوادث التي تقع في العالم، أي يحتاج إلى تتبع جميع الأخبار، ونظراً لاختلاف الأخبار من حيث الأهمية وعدم الأهمية، ومن حيث الصدفة والقصد في الواقعة والحادثة أو في سوق الخبر عنها، ومن حيث الاقتضاب والإسهاب، فإنه مع المران ومع الزمن يصبح تتبع الأخبار لا لجميع الأخبار بل لما هو لا بد من معرفته في حلقات المعرفة.

ثانياً: يحتاج إلى معلومات ولو أولية ولو مقتضبة، عن ماهية الوقائع والحوادث، أي عن مدلولات الأخبار، سواء أكانت معلومات جغرافية أو معلومات تاريخية، أو معلومات فكرية، أو معلومات سياسية، أو شاكل ذلك مما يستطيع معه الوقوف على واقع الواقعة أو الحادثة، أي على حقيقة مدلولات الأخبار.
ثالثا: عدم تجريد الوقائع من ظروفها وعدم تعميمها. فالتجريد والتعميم والقياس الشمولي، هي آفة فهم الوقائع والحوادث، أي آفة معرفة الأخبار. فلا بد من أن تؤخذ الواقعة والحادثة مع ظروفها أخذاً واحداً بحيث لا يفصل بين الحادثة وبين ظروفها ولا بحال من الأحوال. إلى جانب حصر هذه الحادثة بما حصلت فيه، فلا تعمم على كل حادثة مثلها ولا يقاس عليها قياساً شمولياً بل تؤخذ حادثة فردية ويصدر الحكم عليها بوصفها حادثة فردية، أي لهذه الحادثة ليس غير.

رابعاً: تمييز الحادثة والواقعة، أي تمييز الخبر من طريق تمحيصه تمحيصاً تاماً، فيعرف مصدر الخبر، وموقع وقوع الواقعة والحادثة وزمانها، والوضع الذي حصلت فيه، والقصد من وجودها أو من سوق الخبر عنها ومدى إيجاز الخبر والإسهاب فيه وصدقه أم كذبه، إلى غير ذلك مما يتناوله التمحيص. لأن هذا التمحيص هو الذي يوجد التمييز، وبقدر ما يكون شاملاً وعميقاً بقدر ما يوجد تمييز له. وبدون التمييز لا يمكن أن يأخذ هذه الحادثة أو الواقعة، لأنه يصبح فريسة للتضليل أو الخطأ. ولذلك فإن التمييز عامل هام في أخذ الخبر، بل مجرد سماعه.

خامساً: ربط الخبر بالمعلومات ولا سيما ربطه بغيره من الأخبار. وهذا الربط هو الذي يؤدي إلى الحكم الأقرب للصواب على الخبر. فالخبر إذا كان متعلقاً بالسياسة الدولية، وربط بالسياسة المحلية، أو كان متعلقاً بالسياسة المحلية وربط بالسياسة الدولية. أو كان خبراً اقتصادياً وربط بالاقتصاد، مع أنه من الأمور السياسية ولو كان اقتصادياً. أو كان خبراً يتعلق بألمانيا وربط بالسياسة الألمانية مع أنه من الأمور المتعلقة بأمريكا. فالخبر إذا ربط بغير ما يجب أن يربط به فإن الخطأ يقع حتماً، إذا لم يقع التضليل والخداع. لذلك فإن ربط الخبر بما يتعلق به أمر بالغ الأهمية. وأن يكون هذا الربط على وجهه الصحيح أي بأن يكون ربطاً للفهم والإدراك، لا ربطاً لمجرد المعرفة. أي ربطاً للعمل لا للعلم.

هذه الأمور الخمسة لا بد من تحققها جميعاً حتى يتأتى التفكير بالنصوص السياسية، أي حتى يتأتى التفكير السياسي. ولا يقال إن هذه الأمور كثيرة وصعبة ومن العسير تحقيقها. لا يقال ذلك، لأن وجود هذه الأمور ليس بالأمر الصعب، لأن المقصود بها هو مجرد الإلمام وليس المعرفة الواسعة، وهي تأتي مع الزمن وليس دفعة واحدة، وتأتي عن طريق التتبع وليس عن طريق الدراسة والبحث العلمي. صحيح أن الدراسة والبحث العلمي تكون أكثر مساعدة على القدرة، ولكنها لا تلزم في التفكير السياسي، ولا تلزم للسياسي، فهي كمالية وثانوية. والمهم في كل ذلك هو التتبع، ومتى حصل التتبع وجدت الأربعة الباقية طبيعياً. فالأصل في التفكير السياسي هو التتبع، ومتى وجد التتبع وجد التفكير السياسي طبيعياً.
وعلى ذلك، فإن التفكير السياسي _ على صعوبته وعلوه _ فإنه في مقدور كل إنسان، مهما كان تفكيره ومهما كان عقله، فالعادي والنابغة والعبقري، كل منهم في مقدوره أن يفكر تفكيراً سياسياً، وفي مقدوره أن يكون سياسياً، لأنه لا يتطلب درجة معينة من العقل ولا درجة معينة من المعرفة، بل يتطلب تتبع الوقائع والحوادث الجارية أي تتبع الأخبار، ومتى وجد هذا التتبع وجد التفكير السياسي. إلا أن التتبع لا يصح أن يكون منقطعاً بل يجب أن يكون متصلاً، لأن الحوادث والوقائع الجارية تشكل حلقة مترابطة الأطراف فإذا فقدت حلقة منها انقطعت السلسلة، أي انفكت الحلقة، ويصبح في غير مقدور الشخص أن يربط الأخبار وأن يفهمها. ولذلك كان بقاء الحلقة حلقة أمراً ضرورياً في التفكير السياسي، أي أن التتبع المتصل شرط أساسي في التفكير السياسي.
والتفكير السياسي ليس خاصاً بالأفراد، بل هو كما يكون في الأفراد يكون في الجماعات، أي يكون في الشعوب والأمم، فهو ليس كالتفكير الأدبي ولا كالتفكير التشريعي، إنما يتحقق بالأفراد فحسب، ولا يتأتى أن يكون في الجماعات، فهو فردي. بل التفكير السياسي تفكير فردي وتفكير جماعي، وكما يكون في الأفراد يكون في الجماعات. فيكون في الشعوب والأمم، كما يكون في الأفراد من حكام وسياسيين. بل إنه لا يكفي أن يكون في الأفراد، بل يجب أن يكون في الشعوب والأمم، وبدون وجوده في الشعوب والأمم لا يوجد الحكم الصالح، ولا يتأتى وجود النهضة، ولا تصلح الشعوب والأمم لحمل الرسالات. ومن هنا كان لا بد أن يوجد التفكير السياسي في الشعب والأمة. ذلك أن الحكم إنما هو للشعب أو الأمة، وكامن في الشعب والأمة. ولا تستطيع قوة أن تأخذه إلا إذا أعطاه الشعب والأمة، وإذا حصل اغتصابه منها فإنه إنما يغتصب لفترة، فإما أن تعطيه فيستمر أو تصر على استرجاعه فيطاح بالحكم. وما دام الحكم هو للشعب والأمة أو كامن فيها، فإنه لا بد لهذا الشعب وهذه الأمة من أن يكون لديه أو لديها التفكير السياسي. ولذلك فإن التفكير السياسي هو ضروري للأمة قبل الحكام، وضروري لاستقامة الحكم أكثر من ضرورته لإيجاد الحكم. ومن هنا كان لا بد أن تثقف الأمة أو الشعب ثقافة سياسية، وأن يكون لديها التفكير السياسي. أي لا بد أن تزود الأمة بالمعلومات السياسية والأخبار السياسية، وأن ينمى لديها سماع الأخبار السياسية، ولكن بشكل طبيعي لا بشكل مصطنع، وبإعطائها الصحيح من الثقافة السياسية، والصادق من الأخبار، حتى لا تقع فريسة للتضليل. ومن هنا كانت السياسة والتفكير السياسي، هي التي تُوجِد في الشعب أو الأمة الحياة، أي كانت السياسة هي التي تحيا بها الأمة، وبدون ذلك تكون جثة هامدة لا حركة فيها ولا نمو.

إلا أن الخطأ في فهم السياسة والضلال الذي يحصل من فهم السياسة إنما يأتي من التفكير بالنصوص السياسية على غرار التفكير بالنصوص الأخرى من أدبية وفكرية وتشريعية. فيفكر بالألفاظ والتراكيب مثلاً، وتفهم هذه الألفاظ والتراكيب كما هي، أو يفكر بالمعاني التي تحويها هذه الألفاظ والتراكيب، فتفهم هذه المعاني كما هي، أو يفكر في دلالات هذه الألفاظ والتراكيب فتفهم هذه الدلالات. وهنا يقع الخطأ والضلال. لأن التفكير بالنصوص السياسية يختلف كل الاختلاف عن التفكير بأي نص آخر. لأن الخطأ والخطر في التفكير السياسي إنما يأتي من عدم التمييز بين النصوص السياسية وبين غيرها من النصوص. فالنصوص السياسية، قد تكون معانيها موجودة في النصوص، وقد تكون موجودة في غير النصوص، وقد تكون موجودة في صياغة الألفاظ والتراكيب كالمعاهدات مثلاً والتصريحات المسؤولة، وقد يكون في المعاني لا بالصياغة، وقد يكون بالدلالات لا بالمعاني ولا بالألفاظ، وقد يكون ما وراء هذه المعاني والألفاظ والدلالات، بل قد يكون مخالفا لها أو مغايراً للنصوص مغايرة كلية. فإذا لم يدرك ما يعنيه النص السياسي مما هو متضمن للنص، أو خارجاً عنه فإنه لا يدرك النص ولا بحال من الأحوال فيقع الخطأ أو الضلال في التفكير بالنص السياسي.

ثم انه من أخطر الأمور على التفكير السياسي، تجريده وتعميمه ودخول القياس الشمولي فيه. فإن النص السياسي لا يفصل عن ظروفه ولا بحال من الأحوال فهي جزء منه، ولا يصح أن يعمم ولا بوجه من الوجوه. ولا يدخله القياس الشمولي حتى ولا القياس. فإنه علاوة على أن الظروف جزء من النص فإنه نص في حادثة معينة، فيؤخذ لتلك الحادثة ليس غير، فلا يعمم على غيرها ولا يقاس عليها. لا قياساً شمولياً ولا قياساً حقيقياً، بل يجب أن يؤخذ لتلك الحادثة وحدها. لذلك كان التجريد والتعميم والقياس مطلقاً شمولياً كان أو حقيقياً، تشكل خطر الخطأ وخطر الضلال على التفكير السياسي، فقد يعطي مسؤول تصريحاً فيفهم منه شيء، ثم يعطي نفس التصريح أو تصريحاً آخر فيفهم منه شيء آخر قد يكون مخالفاً له بل قد يكون مناقضاً له. ويعطي مسؤول تصريحاً عن أمر حقيقي، أي تصريحاً صادقاً فيفهم منه أنه تصريح كاذب يراد منه التضليل، وقد يعطي تصريحاً كاذباً فيفهم منه أنه تصريح صادق، وأن المقصود منه هو ما عناه والكذب فيه هو انه أعطي للإخفاء بالكذب. وقد يقام بعمل حسب التصريح، وقد يقام بعمل على خلاف التصريح وهكذا. فالظروف والملابسات هي التي تلقي الضوء على التصريح فتكشف ما يراد منه، وليس نفس النص السياسي. ولذلك فإن التفكير السياسي لا يتأتى أن يكون قريباً من الصواب إلا على هذا الوجه. أي إلا إذا جعلت الظروف جزءاً لا يتجزأ من النص أو العمل، وإلا إذا أخذت كل حادثة بمفردها. وأبعد عنها التعميم والقياس.
ولقد عانت الأمة الإسلامية من سوء التفكير السياسي الكثير من المصائب والويلات. فالدولة العثمانية مثلاً، حين كانت أروبا تحاربها في القرن التاسع عشر، إنما كانت تحاربها في الأعمال السياسية أكثر منها في الأعمال العسكرية، وإنه وإن وقعت أعمال عسكرية ولكنها كانت مساعدة للأعمال السياسية. فمثلاً ما كانوا يسمونه بمشكلة البلقان هي مشكلة خلقتها الدول الغربية بالتصريحات، فأعلنوا أن دول البلقان يجب أن تحرر من العثمانيين، أي من المسلمين. ولكن لم يكونوا يعنون انهم سيحاربون الدولة العثمانية، وإنما كانوا يعتمدون على إيجاد القلاقل والاضطرابات في البلقان، فجاءوا بفكرة القومية والتحرر، فأخذها البلقانيون وأخذوا يقومون بالثورات، فكانت الدولة العثمانية تقوم بعمليات عسكرية ضد هذه الثورات مراعية وضع الدول الأخرى، وتحاول استرضاء الدول الأخرى، مع أن هذه الدول الأخرى هي التي كانت تسند الثورات، وهي التي كانت توهم العثمانيين، وهي التي كانت تجعلهم يشتغلون ضد الثورات، من أجل أن يكون عملهم إنهاكا لقواهم لا قضاء على الثورات، وهكذا كان من نتيجة خطأ الدولة العثمانية وضلالها في التفكير السياسي أن خسرت البلقان، ثم لاحقتها فكرة القومية في عقر دارها حتى قضت عليها القضاء المبرم.
وهذا بخلاف روسيا أو الاتحاد السوفياتي، فإنها قد وقعت في نفس المشكلة في أروبا الشرقية في الخمسينات، فإن أمريكا نادت بتحرير أروبا الشرقية من الشيوعية، وأخذت تنادي بالتحرير، وأخذت تسند هذه الدول والشعوب سراً وعلناً. ولكن روسيا لم تقف موقف العثمانيين وعرفت أن فكرة التحرير هذه هي حرب ضد روسيا أو الاتحاد السوفياتي، ولذلك لم تهادن أمريكا، وإنما اتخذتها العدو الأول، ولما قامت ثورة بولونيا سحقتها، ولم تجعل لها أي منفذ للنجاح ،ولما ثارت بلغاريا سحقتها دون أية رحمة، وشددت قبضتها الحديدية على أروبا الشرقية، واستعدت لحرب أمريكا إذا هي تحركت لإسناد أروبا الشرقية سراً وعلناً، مما أدى إلى إخفاق أمريكا إخفاقاً ذريعاً، حتى اضطرت أمريكا بعد إخفاقها وإدراكها موقف روسيا السياسي وفهمها السياسي، أن تتنازل عن فكرة محاربة الشيوعية وإضعاف روسيا، إلى عقد اتفاقيات مع روسيا والتعايش معها، كل ذلك ليس ناتجاً عن قوة روسيا، وإنما ناتج عن التفكير السياسي الصحيح لدى الاتحاد السوفياتي.
ومثلاً حين رأت أمريكا أن اسرائيل التي أقامتها دولة تكاد تفلت من يدها، وتكاد إنجلترا تسترجع هذه البلاد بتحويل ما يسمى بدولة اسرائيل إلى كيان آخر يسمى فلسطين، حين رأت أمريكا ذلك في اواخر الستينات أطلقت على مشكلة فلسطين اسم مشكلة الشرق الأوسط وصارت تقوم بالأعمال السياسية التي تمكنها من أن تتولى المشكلة وحدها. وصارت تتخذ كلمة السلام، وفكرة حل المشكلة وسيلة لتعقيد المشكلة وهكذا، استمرت في التضليل السياسي، حتى ارتمى كل من العرب واليهود في أحضانها، وصارت تتبع أسلوب المغالطة وأسلوب التضليل حتى أنهكت قوى كل من العرب واليهود، فاتجهت لا إلى حل المشكلة، بل إلى نقل المنطقة من حالة اضطراب وتسميه حالة حرب، إلى حالة هدوء نسبي وتسمية حالة سلام، وذلك لكي تتمكن على مهل وبهدوء من تركيز المنطقة على الوضع الذي رسمته لها، حتى تطرد الإنجليز نهائيا من المنطقة وتنفرد وحدها في السيطرة وبسط النفوذ على المنطقة كلها، عن طريق تقوية ما يسمى بدولة اسرائيل. وبذلك كان ما يسمى بمشكلة الشرق الأوسط مثل مشكلة البلقان سواء بسواء، وكما وقع العثمانيون وأهل دول أروبا الجنوبية في الشَّرَك من جراء التضليل السياسي، وقع العرب واليهود في الشرَك نفسه. وإذا لم يوجد التفكير السياسي لدى المسلمين اليوم لإدراك مشكلة الشرق الأوسط، كما أدركت روسيا مشكلة أروبا الشرقية فإن مصير الشرق الأوسط سيكون مثل مصير البلقان سواء بسواء.
فسوء التفكير السياسي هو الذي يدمر الشعوب والأمم، وهو الذي يهدم الدول أو يضعفها، وهو الذي يحول بين الشعوب المستضعفة وبين الانعتاق من ربقة الاستعمار، وهو الذي يحول بين الأمم المنحطة وبين النهوض. ولذلك فإن التفكير في النصوص السياسية أمر بالغ الأهمية، ونتائجه فظيعة أو عظيمة. وأخطار الخطأ أو الضلال فيه أخطار مدمرة. ومن هنا كان لا بد من العناية الفائقة بالتفكير السياسي عناية تفوق العناية بأي تفكير. ذلك أنه ضروري للشعوب ضرورة الحياة.
إلا أن التفكير السياسي، وإن كان أصعب أنواع التفكير وأعلاها، فإنه لا يكفي فيه أن يكون تفكير أفراد فقط، فإن الأفراد لا قيمة لهم مهما كثر عددهم، ومهما كان تفكيرهم سليماً أو عبقرياً. فإن التضليل في التفكير السياسي إذا تمكن من الشعب أو الأمة لا تنفع تجاهه عبقريات الأفراد ولا قيمة للعبقريين في التفكير السياسي، مهما كان عددهم ومهما كانت عبقرية تفكيرهم. فإن الضلال إذا تمكن من الشعب أو الأمة جرف تياره كل شيء، ووقعت الأمة أو الشعب فريسة سهلة لهذا التضليل، وكانت هي ومعها العبقريون لقمة سائغة يلتهمها الأعداء. وما نجاح مصطفى كمال في هدم الدولة الإسلامية وإزالة الخلافة في أوائل القرن العشرين الميلادي ونجاح جمال عبد الناصر في الخمسينات والستينات من هذا القرن في الحيلولة دون تحرير العرب وقد كانوا عقب الحرب العالمية الثانية متحفزين للتحرير، إلا أمثلة حية على أن سوء التفكير السياسي إذا اجتاح الشعوب والأمم فإنه لا تنفع تجاهه عبقرية العبقريين ما داموا أفراداً ولو بلغ عددهم الآلاف. لذلك فإن سوء التفكير السياسي لا يشكل خطراً على الأفراد، وإنما يشكل خطراً على الشعوب والأمم. ومن هنا لا بد من العناية بالتفكير السياسي لدى الشعوب والأمم، عناية تفوق كل شيء. صحيح أن التفكير السياسي، إذا وجد عند الأفراد وسار لديهم في الطريق المستقيم يمكن بهم أن يوجد التفكير السياسي الذي يقف في وجه الأعداء ويكشف تضليلهم، ولكن هذا إنما يتأتى إذا انتقل تفكير هؤلاء الأفراد إلى الشعب أو الأمة وإذا أصبح عند الأمة كما هو عند الأفراد، وإذا انتقل إلى أن يكون تفكير الأمة لا تفكير الأفراد فيصبح هؤلاء الأفراد جزءاً من الأمة لا أفراداً وتكون الأمة كلها أمة مفكرة وليس أفراداً منها. وإذا لم يتحول التفكير الفردي إلى تفكير جماعي ولم يصبح تفكير الأفراد تفكير أمة لا تفكير أفراد، فإنه لا قيمة لهذا التفكير ولا قيمة لهؤلاء الأفراد، فتفكير الأفراد السياسي لا يقوى على الوقوف في وجه الأعداء وفي وجه تضليلهم، مهما كثر عددهم وسمت عبقرياتهم ،وإنما الذي يقف في وجههم هو تفكير الشعوب والأمم، أي هو التفكير السياسي الذي يكون عند الشعوب والأمم.

صحيح أن الأفراد العباقرة، هم أناس عاديون مثلهم مثل باقي الناس لا يتميزون بإنسانيتهم عن أي إنسان عادي. والناس ينظرون إلى هؤلاء الأفراد نظرة عادية فإن عبقريتهم لا تشاهد ولا تلمس ولا يحس بها. ولذلك فإنهم حين تتحرك عبقريتهم وينتجون لا يرى فيهم في أول الأمر أية ميزة، ولا يدرك في إنتاجهم أي تفوق ولا أية عبقرية، فهم إن كانوا مثقفين فإن مثلهم كثيرون مثقفون وإن كانوا أذكياء فإن مثلهم الكثير من الأذكياء. فإذا لفت النظر إلى أفكارهم فإنما يلفت النظر من قبل أفراد آخرين، يقبلون على إنتاجهم ليكونوا مثلهم أو ليساعدهم هذا التفكير على الارتفاع في مجتمعهم وفي وسطهم، أو لاتخاذه وسيلة لتحقيق مآرب شخصية أو غايات أنانية، وإذا ظل كذلك ولم ينتقل إلى جماعات فإنه يبقى فردياً مهما كثر الأفراد المفكرون هذا التفكير ولو كان تفكيراً فريداً يقبله كل من ذاقه أو عرفه. ولذلك فحتى ينفع هذا التفكير السياسي، ويصبح قادراً على الوقوف في وجه الأعداء لا بد أن يتحول إلى تفكير جماعي ويخرج من قوقعة الفردية ومن شرنقة العزلة. فإذا تحول إلى تفكير جماعي وانتقل إلى الشعب أو الأمة فقد وجدت القوة التي تقف في وجه الأعداء ووجدت البذرة القوية التي تنبت شجرة النهضة.

هذا هو التفكير السياسي الذي ينفع وهو التفكير الجماعي لا التفكير الفردي، أي هو تفكير الشعب والأمة، وليس تفكير الأفراد حتى لو كانوا من العبقريين. لذلك يجب تثقيف الأمة التثقيف السياسي ويجب تمرين الأمة وتعليمها على التفكير السياسي، حتى يكون التفكير السياسي هو تفكير الأمة وليس تفكير الأفراد.

هذا هو التفكير السياسي فهو تفكير بالعلوم السياسية والأبحاث السياسية، وتفكير بالحوادث السياسية والوقائع السياسية. وتفكير الأول لا قيمة له ولا يزيد عن مجرد المعرفة للأفكار. أما التفكير السياسي فإنه هو الذي ينفع ويفيد، وهو الذي يكون له أثر باهر وتأثير عظيم. ولذلك فإنه إن جاز التفكير السياسي في العلوم السياسية والأبحاث السياسية وكانت منه فوائد للأفراد من العلماء في السياسة فإن التفكير في الوقائع والحوادث هو واجب على الكفاية للأمة، يجب أن يعمل لإيجاده بالأمة لا سيما على الذين لديهم مثل هذا التفكير سواء أكانوا من المتعلمين أو غير المتعلمين.

وبعد:

فهذه لمحة موجزة عن موضوع التفكير من حيث هو تفكير، نقدمها للأمة الإسلامية لعل دراستها توجد التفكير في هذه الأمة حتى ينقلها هذا التفكير إلى أن تعود خير أمة أخرجت للناس. لا سيما بعد أن مضى على هذه الأمة عشرة قرون وهي بعيدة عن التفكير، وإن حاولت هذا التفكير عدة مرات. إن الأمة الإسلامية قد بليت في القرن الرابع الهجري بعلماء عملوا على تعطيل التفكير في الأمة ونادوا بخطر التفكير على الأمة، وضرره على الإسلام والمسلمين. وذلك حين قام رهط من علماء مثل العالم المشهور باسم القفال ونادوا بإقفال باب الاجتهاد وعملوا على منع الاجتهاد وأقنعوا الناس بخطر الاجتهاد فصدق المسلمون هذه الدعوة وعملوا بها، وتحرج العلماء من الاجتهاد، وخاف المفكرون من الاجتهاد، وكره الناس أن يكون هناك مجتهدون. وقد تبنى الرأي العام في جميع أقطار الإسلام هذا الرأي، وبذلك تعطل التفكير ووقف الناس عند حد التقليد وألغوا عقولهم ولم يعودوا يجرؤن على الاجتهاد. فكان هذا المنع للاجتهاد والتفكير أعلاه إنما يكون في الإسلام، فأدى ذلك إلى وقف التفكير لدى الناس واستمرؤا هذا التعطيل للتفكير، والإنسان بطبعه حيوان كسول، لذلك وقفت الأمة عن التفكير حتى هذا القرن، القرن الرابع عشر هجري. فسلخت عشرة قرون وهي معطلة التفكير. ولذلك ليس من السهل على أمة سلخت عشرة قرون من عمرها وهي معطلة التفكير، أن يتحرك فيها التفكير وأن تفهم عن وعي قيمة التفكير، وقيمة المفكرين. ولذلك فإن ملايين الكتب مثل هذا الكتاب لا تضمن أن تحرك الأمة للتفكير وأن تسوقها لأن تجعل التفكير سجية من سجاياها. ولكن الأحداث الوجعة التي تسحق الأمة سحقاً وتمعسها معساً، فإنها صارت تبعث الأمل في أن يجد التفكير سبيله للأمة. لا سيما بعد أن وجد فيها جماعات تفكر وجماعات تحاول التفكير. بعد أن تحقق فيها آلاف تجسد لديهم حب التفكير، وصاروا مفكرين لا يستمرئون غير التفكير، حتى غدوا تفكيراً يحيا ويتحرك وينمو. لذلك فإن ضخامة الأحداث وفظاعتها، وكون التفكير تجسد في أشخاص حتى غدا تفكيراً يمشي في الأسواق بين الناس، فإن هذين الأمرين: يوجدان أملاً مشرقاً، في أن ينتقل التفكير من الأفراد إلى الجماعات وأن يصبح تفكيراً جماعياً لا تفكيراً فردياً وأن يكون تفكير الأمة لا تفكير الأفراد، فتصبح الأمة الإسلامية أمة مفكرة، وتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس.


8 من صفر سنة 1393 هـ
12 من آذار (مايس) سنة 1973م