السبت، 22 نوفمبر 2008

العاصفة الاقتصادية 2008 بعد عاصفة الطائرات 2001- يوسف بعدراني

وردتني هذه النظرة العميقة للازمة المالية التي تعصف بالعالم والتي ، حسب رؤية وفهم الشيخ يوسف بعدراني، ليست اكثر من 9/11 اقتصادية ولكنها اكبر حجما واكثر خطورة من 11-9 2001 . هناك عدة مفاصل فيما جاء في هذه النظرة تحتاج لنقاشات اوسع نتركها لمداخلات الشباب. والله الهادي الى سواء السبيل

----------------------
11/9 اقتصادي
العاصفة الاقتصادية 2008 بعد عاصفة الطائرات 2001

الأزمة الاقتصادية التي تجتاح العالم هي في حقيقتها أزمة نظام بل أزمة فكر وأخلاق ولا علاقة للاقتصاد بها وليس أدلَّ على هذا من تصريحات جميع الاقتصاديين أن الأسس الاقتصادية متينة جداً ولن تتأثر وأنها مجرد أزمة سيعود بعدها الاقتصاد أقوى مما كان عليه. هذا إذا صحَّ اعتبارها أزمةً نَتَجَت بطبيعتها عن طبيعةِ نظام أو إذا كانت مفتَعَلَةً. بحثنا لن نتطرق فيه إلى سبب الأزمة لأن الكلام فيه لا يجدي وهو أشبه بالثرثرة لكثرة تداوله. هناك أقاويل حول أنَّ هذه الأزمة هي مفتَعَلَة مِن قِبَلِ الحكومة الأمريكية مثل أحداث عاصفة الطائرات في 11/9/2001 التي كانت تمهيداً لتنفيذ برنامج أمريكي لاحتلال بلاد المسلمين منفردة. نحن جزمنا أنَّ أحداث 11/9 كانت، فكرةً وتخطيطاً وتنفيذاً، عملاً قامت به الحكومة الأمريكية لتنفيذ خطتها السياسية الجديدة باختطاف العالم. لا نعترض على الذي يقول إنَّ هذه أيضاً مؤامرة منذ البداية لأنَّ هذا لا يؤثِّر في بحثها. لكن رأينا هنا في موضوع الأزمة الاقتصادية نقول إنها لم تكن ابتداءً مِن تخطيط الحكومة لكن لما تيقَّنَت الحكومة أنَّ الأسواق تسير في طريق الانهيار تلقَّفَت المناسبة ووضعت خطة جبارة لاستحداث وضعٍ مالي يسهل فيه ضرب رؤوس أموال الدول وخاصة الأوروبية منها والسيطرة عليها بعد تحجيمها إلى الحدِّ الأدنى وشلِّ طاقتها التوسعية في المستَقبَل وبذلك تضرب طاقة النمو في دولها. ولاستحداث التغييرات التي كان من المستحيل أن تقوم بها منفردةً أو بفرض صيغتها بسبب المعارَضَة العارمة مِنَ قوى السوق المالية محلياً ودولياً وبسبب معارضة القوى السياسية الرئيسة دولياً.
وقائع العاصفة ابتداءً تحتمل المؤامرة لكن الدلائل التي تشير إلى أنها مؤامرة الحكومة الأمريكية التبَس فهمها لأنه لم يقم أحدٌ بربطها وبذلك بقيت عندَ الخبراء متناثرة مستقلةً بموضوعها. الموضوع أنَّ الحكومة الأمريكية لاحظت منذ فترة طويلة أي منذ أكثر مِن سنتين أنَّ الفارق بين سعر السِّلَع الحقيقي وسعرها في التداول أصبح يفوق قدرة الكتلة النقدية على استيعابه. عندما نقول أكثر مِن سنتين يعني قبل أي إشارة علنية من السوق وقبل بدء وقوع أحداث تنم عن هشاشة السوق النقدي. عندما نقول سعر السِّلَع نعني البيوع الفورية والآجِلَة لأنَّ العقار كسلعة والنفط والمواد الغذائية وكلَّ شيء يتم بيعه وشراءه يداً بيد لا يمكن أن يسبب أزمة مالية لأن الأصل أنَّ النقد لتمويل تبادلها والخدمات المتَعلِّقة بها أو تنتج عنها وعن نظام تبادل منفعتها وملكيتها. كلفة تمويل السوق الآجلة بلغت ستمئة تريليون دولار بينما العقار 19 تريليون، طبعاً هذا لا يعني أنَّ هذه مبالغ مالية دُفِعَت أو تمَّ صرفها فأثَّرت على انعدام السيولة لأن عقود البيوع الآجِلَة عقود وعود تموَّل بفوائد على الوعود وليس بدفع ثمن الوعد إلا في حالَة الاستلام والتسليم. لكنَّ أعباء هذا الكم الهائل مِنَ الوعود بلغت ستين تريليون دولار. الذي يمكن أن يسبِّب أزمة نقد هو اصطناع سوق بدون حدود لطاقته أو مداه أو حجمه مثل "سوق الوعود" أو ما يسمونه سوق البيوع الآجِلَة أو سوق المشتَقات المالية. لكنه أيضاً لا يستحدِث أزمة مثل هذه الأزمة لأن الذي يضمن محكوم بقوانين وحدود لا يستطيع تجاوزها.
هذه الأزمة لايمكن أن تقَع إلا ضمن برنامج سياسي بقرار خطة فيها نظام احتساب نتائجها مِن جميع جوانبها لأنها تستلزم التغاضي عن تنفيذ القوانين التي تحكم النقد ودوره والتسليف وأحكامه والتجارة وطاقتها والرأسمال وإنتاجه. وقوع جميع هذه القطاعات في أجواء تسمح بالتعامل خارج أنظمتها لا يمكن أن يقع بالصدفة بل بخطة إخضاع لأنه لا يمكن تعطيل أجهزة متعدِّدة إلا بإرادة الحكم التي تسيطر على قرار الإجراءات في هذه الأجهزة.
آلية الأنظمة المالية والإجراءات وأجهزة الرقابة النقدية وتعدد المجالس والأسواق المالية وسلطة الاحتياط الفدرالي ووزارة المالية وعشرات بل مئات المجالس والإدارات الرديفة والمتخصِّصة في المجالين المالي والنقدي يجعل السوق النقدي والمالي والاقتصادي برمته تحت المجهر الدائم. استحالة وقوع خلَل في السوق والجزم بأنَّ السلطات النقدية والسياسية كانت تعلم بوقوع ما وقع أمر لا يحتاج إلى بحث وحتى أنه في الأخبار والتحليلات الاقتصادية أمر ثابت متَوَافَق عليه وقد قالَ به كل ذي رأي بالموضوع. وهذا أحد الدلائل الذي يستدل به الذين يقولون إنه عمل الحكومة الأمريكية لأنهم يظنون أنها كانت قادرة على تلافي وقوع الأزمة لو أرادت ذلك. فَهْمُ لماذا ارتفع سعر النفط يوضِح أنها لم تكن تستطيع معالَجَة الأزمة قبل أن تمتلك أدوات المعالَجَة. الربط بين سعر النفط وأسباب الأزمة وبين إمكانية الخبراء وساسة الاقتصاد فيما يمكن أن يقدِموا عليه في الظروف التي ستسمح للحكومة الأمريكية القيام بإجراءات يوضِح أنَّ رفع سعر النفط ومعه الغذاء هو السبيل الوحيد لزيادة القدرة النقدية للحكومة للقيام بما يمكن أن تقوم به.
خطر عدم وجود كتلة نقدية تمويلية تغطي الطلب يعني سقوط الأسعار حتى الحد الذي تستطيع الكتلة النقدية التمويلية تغطيته، هذا في الكلام الدقيق أو النظري لكن بالواقع أنَّ ليس جميع مطلوبات السوق المالية والمستَحَقات العقارية تتحقَّق في اليوم نفسه، ولذلك هناك إمكانية للحفاظ على فارق لا بأس به بين القيمة الحقيقية والقيمة المتداوَلَة ومنها القيمة التي تشمل ربح المضارِب وفائدة التمويل. عندما يقل هامش الفارق النقدي عن فارق حركة السوق العادية بين الذي يبيع ويشتري أي بين العرض والطلب يعني أن يقل الشراء عن النسبة العادية للمعروض. مِثال ما حصل بين سعر العقار الحقيقي في أمريكا تسعة تريليونات دولار وبين السعر التمويلي للسوق الذي بلغ تسعة عشر تريليون دولار، الفرق عشرة تريليونات هو السعر التضخمي الذي لا يقابله رهن واقعي بل رهن ورقي. هذا كان يمكن أن يستمر ويقوم السوق بالتصحيح التدريجي في الحالات العادية لو كان في الكتلة النقدية فائض كافٍ لفترة التصحيح. لكن انتفاخ سوق الأسهم وسوق المشتقات المالية في الوقت نفسه يمكن أن يمتصَّ الهامش النقدي الذي يستحدث الفرصة لإعلان أزمة نقد. وعندما يحصل هذا يبدأ السوق بالاهتزاز لأنه يذهب باتجاه تزايد طلبه على النقد لتمويل جمود الحركة المالية وهي القروض التي تؤمِّن توازن البيع والشراء ما يخفِّف ضغط الفرق بين الكتلة النقدية وحاجة السوق. هذا يحصل كل يوم وفي كل لحظة لأنَّ الكتلة النقدية في النظام الرأسمالي تقوم على حساب الرياضيات لأنها لا يمكن أن تقوم على طبيعة النقد. طبيعة النقد الطبيعية يجب أن تكون جزءاً مِنَ الطبيعة أي مِنَ الموجود في الطبيعة ومِنَ المخلوق مع الطبيعة ومنذ اليوم الأول لإيجادها لأن الإنسان الأول كان بحاجةٍ للنقد كما إنسان اليوم. وأيضاً لأنَّ النقد بحاجةٍ إلى آليَّةٍ لقياس الأشياء به ولقياسه بها تنبثق مِن ذاته لا مِن آليةٍ مفروضة عليه وعلى الناس للقبول بها أو الاستعاضة عنها بنظامٍ حسابي.
طبيعة النقد أو موضوع النقد ليس موضوعنا هنا لأن البحث هو في لماذا الذي يحصل كانت تعلم الحكومة الأمريكية بأنه سيحدث ولم تتلافاه. الحكومة كانت تعلَم أنَّ هذا الذي يحصل سيقع لكنها كانت تعلم أيضاً أنها لا تستطيع منعه أو التخفيف من شدَّته وأنَّ أقصى ما تستطيع فعله هو التهيؤ لمعالَجَة آثاره والاستفادة مِن وضعه خاصة بعد أن بلغ سوق المشتقات المالية 600 تريليون دولار. النظام الرأسمالي ليس نظاماً عقلياً لأنَّ العقل لا يمكن أن يقبل أي فكرٍ مِن أفكاره. إنه نظام غريزي لأنه يعتمد في غايته على إشباع الغرائز لا على غايته التي يحدِّدها العقل المنبَثِق عن الفكرة الكلية للحياة والإنسان والوجود. الغرائز عندما تفرض على العقل غاياتها تتحول لأن تكون هي طاقة وسبب عمله وتقوده في تسخير طاقته الإبداعية فيصبح كلُّ ما ينتِجه يتعلَّق بارتدادٍ أو إشباعٍ غريزي. لذلك حلول مشاكله لا تصدر إلا مِنَ فكرٍ ينشأ عن الفكر الذي صاغته عقولهم لتلبية حاجة الغريزة ابتداءً بغضِّ النظر عن الموضوع إذا كان أصلاً أو فرعاً أو نتيجةً أو معالَجَةً. أي أن معالَجَة أي مشكلة يجب أن تكون مِن جنس الفكر الذي نشأت عنه المشكلة. المعالَجَة الوحيدة التي كان يمكن أن تخطر على بال جميع الاقتصاديين الغربيين أو اقتصاديي النظام الرأسمالي هي زيادة الكتلة النقدية بكمية هائلة وبسرعة قصوى حتى تتم السيطرة على الانهيار بسبب قلة النقد بدفقٍ هائلٍ مِنَ السيولة.
الأمر الثاني في حصول ’الكارثة‘ الاقتصادية أنها مناسبة نادرة لاستحداث تعديلات رقابية وتشريعية تحت الوطأة التي تمنع اختلاف السياسيين والحزبين عليها. الأزمة أمريكية لكنها تحوَّلَت إلى عالمية والتعديلات أمريكية محلية لكنها ستؤثر في العالم وهنا السر في المؤامرة التي تصوغها أمريكا والتي سيسري مفعولها كالسم في العروق من دون أثرٍ ظاهرٍ له.
النفط هو السلعة الوحيدة التي يمكن أن ترفع كتلة النقد العالمية والدولار الذي يشكِّل 60% مِن الكتلة النقدية العالمية بكمية هائلة وبسرعة قصوى. النفط لوحده لا يمكن أن يؤثِّر لوحده في حجم الكتلة النقدية لأنَّ مجموع قيمته حوالي ثلاث تريليونات دولار لكنه بالضجة الإعلامية المزَيَّفَة يمكن أن تَفرضه أمريكا مبرِّراً لشحِّ الدولار في ساعة التوقيت التي تشاؤها. الاقتصاديون والسياسيون الأمريكيون لم يتأخروا بأخذ قرار رفع سعر النفط بأسلوب المضارَبَة عليه في الأسواق المالية بل بادروا فوراً وبتصميم حازم لا تردد فيه. كان واضِحاً وضوحَ الشمس أن الحكومة الأمريكية وراء رفع السعر، وكان واضِحاً جلياً أن الحكومة الأمريكية تتآمر لترفع كتلة الدولار النقدية أساساً وملحقاً بها الكتلة النقدية الدولية دون أن يلحَظَ أحد زيادة طبع كميات الدولار الورقية زيادةً هائلة
بدأ رفع سعر النفط بداية الربع الرابع من عام 2007 حيث كان التوازن بين العرض والطلب قائماً، ولم يكن في الواقع ولا في الأفق ما يبرر اختلال التوازن وبالتالي الارتفاع، كذلك سعر الغذاء. ارتفاع السعر بدون اختلال عامل التوازن لا يكون إلا بقوة كتلة نقدية هائلة بالنسبة للسلعة موضوع المضاربة. لا يوجَد كتلة نقدية في العالم تستطيع التأثير في المضارَبَة في سلعة النفط أو الغذاء إلا كتلة الحكومة الأمريكية عبر المؤسسات التجارية التي تخضع لإمرتها. هذا الواقع هو الدليل على أنَّ الحكومة الأمريكية كانت وراء رفع سعر النفط لزيادة الكتلة النقدية التي هي الغاية مِنَ المؤامرة. الحكومة لا تعلن كم زادت في طبع الأوراق النقدية، لكن أهل الخبرة البسيطة في آلية السوق النقدية يمكنهم بقليل مِنَ الجهد الوصول إلى الرقم التقريبي. هنا كانت مؤامرة الحكومة الأمريكية في موضوع الأزمة الحالي: مؤامرة في الإجراء وقد لا تكون في السبب ولذلك يجب الفصل بين الأمرين وإن كان عدم الفصل قد لا يؤثِّر في فهم تحديد مسار الأمور في المستقبل.
أعضاء الكونغرس الأمريكي عقدوا لقاءَ مساءَلَةٍ مع وزير الخزانة الأمريكي بولسون ورئيس الاحتياط الفدرالي برنانكه عن موضوع ارتفاع سعر النفط الذي كانت الحكومة الأمريكية تكذب كل يوم عن سببه. كذاب 11/9 كان تقريباً يدلي بتصريح يومي عن سبب ارتفاع النفط أنه حاجة السوق التي لا تلبيها دول أوبك. وقد كذَّبه كثير مِن مسئولي أوبك وقالوا إنَّ السبب هو مضارَبَة الرأسماليين الأمريكيين في سوق النفط وهو الذي يرفع السعر وتمَّ تكذيبه واتهامه مباشرةً على لسان أعلى المستويات لكن لم يرفَّ له جفن. الإنسان بإنسانيةٍ لا يمكن أن لا يرِفَّ له جَفْنُ الإنسانية إذا اتهموه بالكذب، وحده إنسان الديمقراطية لا يرفّ له جفن الإنسانية لانعدامها فيه. بوش كان يتهم العالم بالتآمر على أمريكا بسبب نقص الإنتاج! جلسة المساءَلَة نقلتها وسائل الإعلام المرئي مباشَرَةً، كلنا شاهدنا أحد الشيوخ الذين لا يفهمون اللعبة الشيطانية، بدا غاضِباًً بتأثره مِن ارتفاع سعر النفط توجه بالحديث إلى برنانكه: أسعار النفط ترتفع وتسوقون أسباباً لا يمكن تبريرها، الشعب الأمريكي يئِنّ مِن ارتفاع سعر النفط، لماذا هذا الارتفاع الجنوني؟ هل نحن وراءه كما تقول الادعاءات والشائعات؟ أجابه بيرنانكه وبريق عيني الثعلب يشعّ في نظراته: السبب هو الخَلَل بين العرض والطلب واحتكار أوبك للنفط وتعنت السعودية ورفضها لزيادة الإنتاج الذي نطالبها به كل يوم والرئيس بنفسه كرر طلب زيادة إنتاجها عدة مرات لكنها ترفض مدَّنا ومدّ العالم بالنفط. الشيخ الأمريكي لم يقبل ما ردَّ به بيرنانكه وكأنه أصرَّ أن يفضح كذبه لكن بسؤال آخر في موضوع مغاير فقال له: التقارير تشير إلى أنَّ الحكومة تستغل ارتفاع سعر النفط لتزيد طبع دولار الأوراق النقدية، هناك خبراء يقولون إنكم طبعتم أربع ترليون دولار وآخرون يقولون طبعتم تريليوني دولار، هل يمكن أن نعرف كم طبعتم؟ هل يوجَد مَن يعرف كم طَبَعَت سلطة النقد من الأوراق المالية؟ أجاب بلؤم الكذاب المتآمر في الموضوع، تماماً كما كان يتحدث تشيني وبوش إلى الأمريكيين عن أحداث 11/9 وأنَّ المسلمين وراءها: لا، لا يمكن أن نعرف، لا أحد يعرف!
رفع أسعار النفط هو المؤامرة أو الإجراء الذي سيسمح بمواجهة الأزمة والسيطرة عليها وعلى نتائجها، لكن الأهم هو الذي سيسمح بإخضاع السوق المالية الأمريكية والدولية للتسليم والقبول بالإجراءات التي ستفرضها أمريكا بحجَّة أنها إصلاحات!
الحقيقة أنَّ الإصلاحات ذرٌّ للرماد في العيون حتى لا يرى أحد أين تكمن الحقيقة في المؤامرة. الحقيقة أن سبب المؤامرة بسيط وواضح وهو في حجم الكتلة النقدية. بعد هذه الأزمة سيتقلَّص الفارق الانتفاخي بين العرض والطلب وبالتالي لن يحتاج السوق للترليونات التي طبعتها أمريكا، أين ستقبع وما هو دورها هو الذي سيرسم أبعاد المؤامرة.
كثيرة هي الأقوال في هذه الأيام عن سقوط أمريكا من دور القوة الاقتصادية العظمى. قال هذا الروس والألمان والفرنسيون وكثير من الخبراء الأمريكيين. أقوالهم لا يمكن ترجمتها وليست أكثر مِن كلمات، معنى الكلام يرتبط بواقعه: ماذا تشكِّل روسيا كطاقة في الاقتصاد العالمي؟ ليس أكثر مِن صفر! ألمانيا تتحكَّم باقتصادها الصناعي والمالي الرساميلُ الأمريكية وكذلك اليابان وكوريا ومعظم الدول الأخرى حالتها أضعف. الصين تعيش وتنمو على فتات السوق الأمريكي. بريطانيا طلبت قرضاً مِن أمريكا بقيمة 170 مليار دولار لمواجهة الأزمة الطارئة. دول النفط الخليجية لا تملك قراراً ولا حتى في امتلاك نقدها. طالما أن جميع هذه الدول تدور في فَلَك الفكر الرأسمالي أو تَبَعاً له، أو لا يعرفون غيره ويمارسون سياسته ويلتزمون إجراءاته ويسعون في غاياته، لا يوجَد ما يبرر هذه الأقوال. لا يمكن أن توجَدَ قوة تواجه قوة أمريكا الاقتصادية إلا إذا سيطرت أيديولوجية جديدة ينبثق عنها فكر اقتصادي شامل للاقتصاد والنقد والتجارة. لا يوجَد عند الإنسان اليوم غير أيديولوجية الرأسمالية الديمقراطية في السلطة وأيديولوجية الإسلام التي ليست اليوم في السلطة. القيود والإجراءات التي سيعلَن عنها قريباً ستضبط حركة التمويل في العالَم لتكون ضمن نسبٍ صارمة مِن الكتلة النقدية المتَوافِرَة للدول. نسبة النقد لحاجة الدول للتمويل في واقعها أنها في معظم الدول نسبة تافهة ستضغط على النمو الاقتصادي في معظَم الدول. حتى دول الاتحاد الأوروبي ستكون تحت وطأة الشحِّ النقدي. وحدها أمريكا ستكون كتلتها أكبر مِن حاجتها ما سيجعلها المسيطر الأول على سوق السيولة النقدية في العالم. أمريكا ستخرج مِن هذه الأزمة كزعيمة أقوى في عالم تُقاسُ فيه القوة بحجم السيولة التي بها يمكن السيطرة على الاقتصاديات المؤثِّرَة بفضل السيولة الإضافية التي وفَّرَتها لها هذه الخطة؛ "خطة أزمة النقد". وبفضل الحاجة التي استطاعت أمريكا فرضها على العالم بوجوب وضع إجراءات وإصلاحات تسليفية جديدة يتأثر بها الجميع إلا أمريكا لأن الإصلاحات تتعلَّق بفرض تحديد نسبٍ للإقراض تنبثق عن قدرة السوق على الانتفاخ وليس على القيمة الحقيقية للسلعة أو آلية تسعير السلعة والمنفعة في العين كما هو في ظاهر الكلام عن الإصلاحات الإجرائية والرقابية.
سر المؤامرة الجديدة يتعلق بالكتلة النقدية ووفرة السيولة لأنه يجعل طاقتها ضمن القيود الجديدة هي نظام التقويم وهي المرجعية لخطط النمو الاقتصادي. أي أن الإصلاحات تربط بين حاجة التمويل وإجراءاته وليس بين حاجة التمويل وطاقة السوق، ما سيجعل النمو الاقتصادي محكوماً بقدرة الدولة ذات السوق الذي تكبر فيه طاقته التمويلية عن غيره مِنَ الأسواق. والدولار الذي كانت نسبته 60% من سوق كانت حجم كتلته النقدية مئة دولار مثلاً ستبقى نسبته 60% لكن مِن سوقٍ حجمه 95 دولاراً مع زيادة في كتلة الدولار تمَّ طبعها خِلسَةً، نحن نقدرها بما نحن عليه مِن بساطة بأربعة تريليونات باحتساب ارتفاع سعر النفط لفترة وجيزة هي فترة الوقت اللازم للطبع. لكن مع احتساب المواد الأولية والغذائية فإن الرقم قد يزيد، لذلك لا أحد يعرف حقيقة المؤامرة الأمريكية الجديدة حتى وضوح الإجراءات الإصلاحية الأمريكية ووضوح الفهم الأوروبي للموقف النقدي الجديد.
مِنَ البداية، كان واضِحاً أنَّ أوروبا لم تكن على وعيٍ تام بما يجري لكن بعد صدور مواقفها الحاسمة بتأمين تريليوني دولار لفرض الاستقرار على الأسواق، هناك دلائل على أنها تماسكت وفهمت أن المؤامرة عليها أولاً وأنها قررت التصدي لها. الذي جنَّ جنونه هو الذي عدّها صفعةً قويةً لشخصه واستهزاءً بثقافته الاقتصادية وذكائه الفطري( !!) هو الذي استطاع التأثير في ازدهار الاقتصاد البريطاني طوال سنين متتالية وظنَّ أنه نفَّذ الخطةَ المثالية في صياغة التشريعات وتنفيذ الإصلاحات المالية التي تحفظ السوق المالي الإنكليزي مِنَ التأثيرات الخارجية وبذلك يحفظ نمو الاقتصاد البريطاني.

(((
‼ عندما يوصَفُ شخص بالذكاء الفطري فهذا يعني أنه يتعامل مع الموضوع بطاقته الغريزية وليس بثقافته في الموضوع، وغالباً ما يكون هذا القول إهانةً للرجل لأنه اتهامٌ له صريح أنه جاهل بمعطيات الموضوع لأن الفهم بالارتداد الغريزي ليس فهماً في الموضوع بل هو فهم لظاهره أو في وجه مِن أوجهه. لكن في حالة غوردن براون نصحِّح هذه المقولة لنضع الأمور في نِصابها وإنصافاً لعبقريته التي لم يعد يعترف بها غير فلانٍ مع قليلٍ مِنَ الناس. اللوم على براون ليس لأنه لم يفهم أو أن فهمه للرأسمالية الديمقراطية أو الليبرالية الرأسمالية لم يكن فهماً لأفكارها، اللوم على براون لأته لم يفهم الخطأ والجريمة والخبث في فكر الرأسمالية الديمقراطية منذ البداية. فكر الرأسمالية الديمقراطية ليس فكراً إنسانياً، وهنا يلزم توضيح معنى الفكر الإنساني أنه ليس الفكر الذي يساعد الإنسان بل الذي يصدر عن إنسان. الفكر حتى يصدر عن إنسان يجب أن يصدر بنظام التفكير الذي اختصَّ الله به الإنسان فإن صدَرَ بغير هذا النظام فهو فكر شيطان لأنه فكر بغير طريقته والفرق بينهما كما الفرق بين زواج الرجل بامرأة وزواج المثْلَين. غباء براون ابتداءً أنه لم يتعرَّف إلى مغالَطَةِ الفكر الرأسمالي لواقع الاقتصاد والنقد بمعطيات طبيعته وعلاقة نظامه بهذه الطبيعة وليس بمعطياتها ووجوب ارتباط نتائجه بغاية معطياته الطبيعية. براون لا يمكنه أن يفعل أكثر مما فعل، ولا يمكن لغيره أن يفعل أكثر منه، خدعة أمريكا أو محاولة أمريكا للسيطرة النقدية المطلَقَة على الاقتصاد هو عمل يحتِّمه فكر الرأسمالية الديمقراطية وليس فكراً طارئاً. أو أنَّ الخبث فيه هو ليس مِن جنسه، ليس هناك في الجنس البشري أكثرُ جشعاً مِنَ الذي تثقَّف بثقافة الفكر الرأسمالي الديمقراطي بعمقٍ أكثر مِن غيره. ))))
خروج براون إلى العلَن باتهام أمريكا أنها السبب بهذه الأزمة لأنه أدرك حجم المؤامَرة على بريطانيا بالذات رغمَ معرفته الحقيقية أنها أيضاً على ألمانيا بالذات وعلى كلِّ دولةٍ أوروبية بالذات إلا أنه كان يعرف أنَّ اقتصاد الدول الأخرى سيُنهَك ولكنه سيتعافى وإن إلى حدود السقف الذي ستفرضه الخطَّة الأمريكية. براون يدرك أنَّ الخطَّةَ الأمريكية تقضي بتغيير قواعد اللعبة الاقتصادية الدولية مِن تحكَّم طاقة السوق بالنقد إلى تحكُّم طاقة النقد بالسوق. اقتصاد بريطانيا يقوم منذ نشوئه على أنها مركزٌ للخدمات المالية للعالم لا ضرورَة لأن يكون ذلك بنقدها بل بأيِّ نقدٍ يتوافر لها تستطيع امتلاكه أو استعارته أو تسخيره؛ نقد أمريكا وغيرها كان بمتناولها دائماً. أمريكا، فجأةً قررت إنهاء هذا الدور بفرض الظروف التي تمنع توافر النقد وهو السلعة التي يقوم عليها اقتصاد الخدمات المالية. أو بفرض الظروف التي تقلِّص السوق لهذه الخدمات إلى الحدِّ الذي يُقيت ولا يُميت. براون لم يجِنَّ جنونه بسبب تآمر أمريكا على بريطانيا، فهذا يحصل كلَّ يوم وفي كلِّ خطَّةٍ سياسيةٍ حول العالم، براون جنَّ لأنه ليس بيده حلّ، أو عميَ عليه أن يرى مخرجاً. لكنه وهو الهالِك قرَّر أن يسير بالمعالَجَة التي لا بدَّ منها والتي لا يوجَد غيرها في القاموس الحاضِر وهي ضخُّ البلايين بالمئات. نسبة الاقتصاد البريطاني إلى الأمريكي ضئيلة جداً بمقارَنَة نفوذها الدولي بالنسبة إلى النفوذ الأمريكي. عندما قرَّرَ براون ضخَّ سيولَة نقدية في السوق البريطاني ضخَّ سيولَةً أكثر مما ضخَّت أمريكا، لماذا؟
أمريكا عندما تضخ السيولة فهو جزء مِن فصول المسرحية وليس جزءاً مِن عملٍ حقيقي، بريطانيا عندما تفعل فذلك مِن أجل الحياة وعدم الموت. ألمانيا كذلك، لكن لغير أسباب الإنكليز، اساس اقتصاد ألمانيا هو الصناعة وبيع هذه المنتَجات. ضربة أمريكا في تجفيف النقد هو في حقيقته تجفيف لمنابع النقد التي تموِّل التسليفات الدولية والمحلية، وهو ما يفرض خفض سقف التداول التجاري والمحلي إلى حدود الكتلة النقدية التي يملكها الطرفان في التبادل محليا أو دولياً. أكثر الدول الاقتصادية التي تتأثر في العالم هي المانيا وفرنسا، ألمانيا مِن أجل الحياة وعدم الدخول في عالم الموات ـ وهو الموت السريري ـ ضخَّت في سوقها، الصغير جداً بالمقارنة مع السوق الأمريكي رغم أنه ثاني أو ثالث أكبر الأسواق العالمية، أكثر مما ضخَّت أمريكا في سوقها. وفرنسا ضخت بمقدار ما ضخَّته أمريكا تقريباً أو أقل بقليل! دولة اسكندنافية لا يتجاوز عدد سكانها بضعة ملايين ضخَّت مئتي بليون دولار بينما أمريكا ضخَّت فقط سبعمئة بليون، ما يؤكِّد أن دولةً ضاربة تسيطر على تفاعلات مجرى الأمور ودولة تنهال عليها الضربات لا ترى مخرجاً فهي تفعل المستحيل وتقذف بكل ما تستطيع رميه حتى تبقى سفينةً عائمةً ولو في ’المغطس‘ الأمريكي الذي لايعوم فيه إلا ’صيصان‘ الفَرخَة.
أمريكا تقترح وكالة دولية لتنظيم السوق ـ GLOBAL REGULATORY AGENCY ـ بينما بريطانيا تقترح مركزاً مالياً استشعارياً ـ INT SENSOR CENTER ـ اسم كلٍّ منها يفضح القصد الأمريكي مِن الإعصار المالي وخطة بريطانيا على مواجهتها. لكن هل أمريكا تريد فعلاً خفضَ سقف الحركة السوقية الدولية أو تحجيم الحركة المالية الدولية وتبقى هي مسيطرة على السوق التي يتم تصغيرها؟ أم أنها تريد أن ينفلش السوق إلى ما كان عليه السوق بعد أن تكون قد استعادت سيطرتها أو أضعفت إمكانيات الدول التي تشاركها أدوات السوق لتكون هي الشريك الذي يفرض وليس الشريك الأبرز الذي يشارك بقوة وله تأثير كبير لكنه لا يجني بقدر تأثيره؟ سؤال لا يحتاج إلى جواب لكلِّ مَن يعرف كيف يعمل عقل الفيلسوف الإنكليزي الذي أنشأ أفكار الرأسمالية الديمقراطية.
رئيس دورة الإتحاد الأوروبي ساركوزي يصرِّح عند وصوله إلى واشنطن للقاء بوش برفقة رئيس المجلس الدائم باروسو في 18/10/08 بلغة التهديد وإن كان ليس بلهجتها: نحضر إلى هنا ومعنا تفويض من ال27 دولة أوروبية التي اجتمعت بشأن الأزمة المالية الدولية وأنها تريد اجتماع قمة عالمية سريعاً للاتفاق على إجراءات مالية جديدة. بعد لقائهم صرح بوش إنه يرى إمكانية لعقد الاجتماع بعد شهر! ساركوزي يصرِّح: يستحيل أن تستمر أمريكا بالتحكم بالسياسة المالية للعالم. بوش لا يعلق.
مسئول مالي أوروبي مِنَ الدرجة الأعلى يصرِّح في 20/10/08 إن هذه الأزمة هي زلزال مستمر! هذا هو الوصف الدقيق الذي لم يستطع أحد أن يصفه بهذا التشبيه الواقعي لأن مثل هذا التشبيه لا يأتي إلا مِن فهمٍ للحالة يلتصق أو ينبثق مِن بُعدِ الحدث وهو ما لا يستطيعه المحلِّل الذي يعتمد على فهم الخبر منفصلاً عن فكر مصدر الحدث. ربط الخبر بمصدره الفكري هو الذي يحدِّد بُعده الفكري والواقعي. لذلك هو ليس تنبؤاً أو افتراضاً أو تخميناً بل هو فكرٌ يَنتُج عن واقعِ فكر. خطة أمريكا في إحداث هذه الهزة المالية الدولية هو أن تستمر ارتداداتها طويلاً في الجنس الأوروبي. ومِن مظاهر تمرير المؤامرة رغم أنف الأوروبيين هو رفع وتيرة التلاعب بأسواق الأسهم ليكون استقرار هذه الأسواق هو المطلَب وليس الإصلاحات المالية الدولية التي تريدها أوروبا. أمريكا تريد إصلاحات مالية تفرض أن تتصرف كل دولة بإمكانياتها النقدية. هذا يسمح لأمريكا أن تتلاعب باقتصاديات الدول منفردة وبالأسواق الدولية مجتمعة لأنها تعتمد على السوق المحلي الأمريكي وعلى النقد الأمريكي وسيولته لتحقيق سياساتها وأهدافها المالية والاقتصادية والتجارية.

أبحاث "الإصلاح المالي" ومفاوضاته ستطول لكن لن تكون "إصلاحات" بل تعديلات لأن الإصلاح يتأتى مِن فكر وليس من تغيير في إجراء. إصلاح الإجراءت هو تعديل مِن ذات فكر الإجراء السابق يؤدي إلى معالَجَة الحالَة الآنية بتغييرها وليس حتى بإصلاحها لكن لأن تغييرها يأخذ وقتا طويلاً مِنَ الممارَسَة لا يلحظ المراقب أنها حركة تغييرية. هكذا مع الزمن تصبح الحالة الجديدة أزمة تحتاج إلى "إصلاح". الإصلاح لا يكون إلا بتغيير نظرة الفكر الرأسمالي إلى النقد والاقتصاد والإنسان كنائب وممثلٍ عن الحياة والوجود والمصير، هل يمكن ذلك؟ لا، لا يمكن تغيير نظرة الرأسمالية الديمقراطية إلى الوجود الذي منه الحياة؛ حياتنا، نحن البشر. النظرة إلى الوجود هي الفكر الذي يبحث في سبب الوجود؛ وجودنا نحن. فكر سبب الوجود هو فكر ما قبل وجودنا الذي يبحث في كيفية وجودنا وسببه. وهو الفكر الذي يبحث في سبب وجودنا نحن البشر مرتبطاً بفكرِ مصيرِ حياةِ الفرد ليس بالموت الذي يدخل فيه كلَّ مَن سبقنا وندخل فيه واحداً واحداً، كلٌّ منّا يدفن مَن يسبقه، بل بما بعدَ الموت. فكر المصير لا يأتي مِنَ استنتاج عقل الفرد الإنسان بل يأتي مِن مصدر فكر كيفية وجودنا وسببه لا مِن استنباطِ الواحِدِ منّا.
الفكر الرأسمالي هو صناعةُ عقلِ فردٍ منا لا يمكن إصلاحه بتغيير النظرة إلى النقد والاقتصاد والإنسان إلا بنقضه جملَةً وتفصيلاً، أصلاً وفروعا، وهذا غير مطروح مِن غيري وأنا أكثر الناس عجزاً في هذا الأمر. إني وإن أقوم به وأدعو له إلا أنَّ ذلك صدعاً بأمر الله تعالى الذي فَرَضَ النصيحة والعمل مِن أجل تغيير الواقع لاستبداله بواقعٍ يقوم على تطبيق أحكامه في السياسة والحكم والاقتصاد والنقد والأخلاق والعبادات.
انتهى

الاثنين، 27 أكتوبر 2008

مختصر كتاب أزمـــة الرأسمالية العالميـــة لجورج سوروس

هو عنوان كتاب المضارب جورج شوروش. وهو لمن لايعرفه يهودي هنغاري(لذلك يلفظ اسمه شوروش وليس سوروس كما هو شائع) اميركي الجنسية. وهو الذي ضارب على الجنيه الاسترليني عام 1992 فكسب من الحكومة البريطانية ملياري دولار. وكان كلينتون يعتبر شوروش ثروة اميركية قومية. بل انه كان يستعين به في العمليات الاقتصادية السوداء.

وفي عودة للكتاب موضوع حديثنا نرى ان قراءته التحليلية تسمح لنا بتقسيمه الى قسمين رئيسين. الاول عبارة عن سرد نظري-استعراضي هدفه تعظيم الذات و الدفاع عنها في وجه تهم من نوع "المجرم المالي العالمي" وهي تهمة غير مدرجة لغاية اليوم. الا انها في طريقها للاعتماد بوجود اشخاص على غرار شوروش مستعدين لدفع شعوب بكملها نحو الافلاس. عن طريق استغلال قوانين غامضة وغير مستقرة بحيث يسهل التحايل عليها. ويكفينا للدلالة على ذلك اعترافه بالتسبب في ازمة النمور الآسيوية. التي ادت لضرب اقتصاديات هذه الدول واصابتها بالافلاس.

اما القسم الثاني فهو يمثل رؤية استراتيجية متينة البنية للاقتصاد العالمي ولثغرات النظام الرأسمالي. وهو يتضمن العديد من المفاجآت غير المتظرة. وكذلك العديد من التحذيرات فائقة الجرأة والصراحة. ويهمنا ان نتوقف تحديدا عند الانتقادات الشوروشية التالية للراسمالية:

1. ان النظام الراسمالي غير قابل للعولمة بسبب معاناته من جملة امراض مزمنة اضيفت اليها فيروسات جديدة قد يكون الشفاء منها صعبا. وهو بذلك ينفي رد فشل العولمة في العديد من الدول الى الفساد المستشري فيها.

2. اذا كانت الشركات العملاقة هي عماد العولمة فهي قد تحولت الى مجرد لاعب صغير في الاقتصاد العالمي. وذلك بالمقارنة مع البيوتات المالية الضخمة ومع صناديق الاستثمار. مما حول السلطة المركزية الى مؤسسات التقويم المالي العالمي. مثل مؤسسة مودي ومؤسسة ستاندرد اند بورز . وهي مؤسسات ترفع من تشاء وتدفه بمن تشاء من الشركات الى الانهيار. وهو يرى ان اشراف الدول على هذه المؤسسات يخدم المصالح السياسية على حساب الاقتصاد العالمي.

3. قصور مقررات مؤتمر بازل (1988) التي اثبتت عجزها عن ضبط التدفقات المالية الضخمة على الدول المتعولمة حديثا. مما يزيد احتمالات وقوع اقتصاداتها ضحية للفراغ الناجم عن عدم انتظام الاقراض/الائتمان.

هكذا وعبر هذه النقاط الثلاث يعلن شوروش لاجدوى العولمة. بل هو يجعل منها خطرا داهما على اقتصادات الدول المتعولمة. حتى انه يؤكد في كتابه ان نجاة الصين من الازمة الآسيوية تعود الى تحفظها تجاه ادخال عملتها في سوق التداول العالمية. وبمراجعة مؤتمر سياتل الفاشل يتبين لنا ان دولا عديدة،من بينها الولايات المتحدة نفسها، بدأت باعتماد نصائح شوروش ورؤيته. فماذا عن الادارة الاميركية الجديدة؟.

ان معرفة موقف ادارة بوش من آراء شوروش يحسن من قدرات التوقع للمحلل الاقتصادي المتابع لمحاولات بوش الاصلاحية. واذا كانت هذه المعرفة تنتظر الخطوات المقبلة لهذه الادارة (وهي قد تستغرق وقتا لاباس به) فانه بالامكان معرفة مدى احترام هذه الخطوات لتوصيات شوروش وهي التالية:

1. الطابع الايديولوجي-الاصولي للسوق: ويستدل عليه شوروش من الموقف من ماليزيا التي تركت لتواجه مصيرها بسبب هذه الاصولية. ويرى شوروش ان تجربة ماليزيا ستدفع بدول كثيرة الى ضبط التدفقات المالية -الخروج من العولمة- (وهذا ما حصل فعلا). كما انه يرى في هذه المواقف مخالفة صريحة للمنطق. اذ انطلقت العولمة من الاعتقاد بنهاية الايديولوجيات وتخطي الاصوليات لتعود فتسلك سلوكا ايديولوجيا- اصوليا!.

2. ان ضبط وتقليص التدفقات المالية الى بعض الدول يستتبع التراجع، الى درجة الانهيار، لنظام التجارة الحرة. خصوصا لجهة تبادل السلع والخدمات . مما يعني وصول النظام المعولم الى مرحلة التحلل الكارثي.

3. ضرورة اصلاح المؤسسات المالية العالمية. وفي طليعتها صندوق النقد الدولي. فهذه المؤسسات متأثرة باصولية السوق وايديولوجيتها. مما يفقدها مرونتها وقدرتها على قراءة واقع الدول المقترضة وخصوصياتها المحلية. ناهيك عن استعاضة بعض المسؤولين عن هذه المرونة بمجاملات للمسؤولين المحليين مما يشوه واقعية تقارير هذه المؤسسات ويفقدها موضوعيتها. بل ان اعتماد هذه التقارير مستقبلا قد يتحول الى كارثة.

4. الضرورة الحيوية لايجاد آلية للتدخل في السوق لحمايتها من المضاربين و وقايتها من الهزات المالية العنيفة.

فاذا ما حاولنا قراءة موقف الادارة الاميركية الجديدة على ضوء معطيات شوروش وانتقاداته فان هذه المحاولة تقتضي الاستنارة بمواقف بوش الأب (الذي لايزال مؤثرا وفريقه بقوة) وبالمواقف الجمهورية عموما. وهنا نقع على تناقضات عميقة في فهم كل من جمهوريي اميركا و ديموقراطييها للنظام العالمي الجديد. فالجمهوريون يسعون لارساء توازن واستقرار اقتصادي عبر تدعيم القدرات الاميركية. اذ يقلصون النفقات بدلا من البحث عن موارد جديدة للانفاق. ويسعون لتامين مصالح اميركا بتحالفات مدروسة بدلا من المغامرات المحدودة. ويعملون على تدعيم قوة التأثير الاميركي على مختلف الصعد بدلا من اجبار الاصدقاء على تقديم الخدمات. وبذلك فهم يسعون للحصول على حاجاتهم بالقوة وليس بالطلب.

على هذا الاساس نستطيع قراءة ملاحظات شوروش وترجمتها في سياسة الادارة الاميركية المقبلة على النحو الآتي:

· تطوير القدرات التكنولوجية العسكرية الاميركية لتكريس زعامة الولايات المتحدة للنظام العالمي الجديد. بعيدا عن اية مخاوف من اي مصدر اتت.

· تكريس العلاقات الاميركية في الاتجاه الذي يخدم مصالحها حتى ولو ادى ذلك الى تغييرات استراتيجية واسعة النطاق.

· التخلص من الوسطاء الاقتصاديين والسياسيين والاستراتيجيين. بما يعني رفض استقلاليتهم وشراكتهم وتحويلهم الى التبعية المباشرة للولايات المتحدة. مع تصنيف رافضي هذه التبعية في خانة المارقين.

· يبقى النفط السلعة السياسية-الاستراتيجية الاهم في المستقبل المنظور. وعلى الادارة الجديدة تثبيت هيمنتها وسيطرتها على هذه السلعة وعلى اسعارها. لان هذه السيطرة تشكل صمام الامان الاكيد للاقتصاد الاميركي. لذا فهي تستأهل الجهود وتغيير بعض اساسيات السياسة الاميركية بعيدا عن الايديولوجيا والاصولية.

· ترك الشركات العملاقة والمؤسسات المالية والدول المتعولمة كي تواجه مصيرها بعيدا عن اية تضحيات اميركية في هذا المجال.

· السعي لتعميق العلاقات مع الصين تجنبا للصدام معها في قضايا اساسية محرجة بالنسبة للولايات المتحدة. وايضا انطلاقا من استراتيجية نيكسون الجمهوري الذي يصر على اعتبار الصين لاعبا مستقبليا هاما واجب الاستيعاب عبر علاقات خاصة.

http://www.mostakbaliat.com/link38.html

كتاب ( الأسواق المالية ) لمؤلفه الأستاذ / فتحي محمد سليم

كتاب ( الأسواق المالية ) لمؤلفه الأستاذ / فتحي محمد سليم
====================================
بسم الله الرحمن الرحيم

الأسواق المالية

البورصات :

بورصات الأسهم والسندات ، والأوراق المالية ، والبورصات التجارية ، هذه هي أسواق المال ، إنها أسواق وهمية ، يتحكم فيها قراصنة المال ، وكبار المضاربين . وآلية هذه الأسواق هي:
1- سعر الفائدة .
2- سعر الصرف .

إن الأداة الأساسية التي يعتمد عليها السوق المالي ، والتي يتحرك السوق بتحركها ، ارتفاعا وانخفاضا ، ازدهارا أو انتكاسا ، إنما هي الفائدة (الربا) ويرتبط بها سعر الصرف بين العملات النقدية ، كما ترتكز عليها أسعار الأسهم والسندات وباقي المعاملات المالية في سوق البورصات التجارية .

إن الهزة المالية التي حصلت في أسواق المال في دول شرق آسيا ، إنما بدأت من بنكوك عاصمة تايلاند . ففي 2 تموز سنة 1997 بدأت بتخفيض سعر الفائدة في بنك بنكوك المركزي ، وامتدت حتى عمت جميع دول جنوب شرق آسيا ، وبخاصة ، أندونيسيا وماليزيا .

وبتاريخ 17 آب 1998 حصل انحدار مفاجىء للروبل الروسي ، فبعد أن كان الدولار يساوي ستة روبلات ، صعد فورا حتى أصبح يساور ثلاثة وعشرين روبلا .

وفي 13 كانون ثاني 1999 حصل هبوط فظيع للريال البرازيلي وبذلك يكون نصف الاقتصاد العالمي قد أصيب بضربات قوية .

إن المعاملات الاستثمارية هي رؤوس أموال متحركة متنقلة وتحركها وتنقلها إنما يكون بإبراز بطاقة تنطوي على ضمانات وتعهدات تسمى شيكات ، أو تحويلات بإشارات ، فيتحرك المال وينتقل بهذه الإشارة من بنك كذا في أمريكا إلى بنك كذا في باريس أو طوكيو ، أي ينتقل من سوق مالي إلى سوق مالي آخر .
ويواكب هذه التحركات المالية مراقبات ومتابعات دقيقة وحذرة ، ليتمكن المضاربون من الهروب بأموالهم ، إذا ما ظهرت بوادر الخسارة ، إن لم يفتعلوها هم أنفسهم . أو ليدخلوا بسرعة أسواقا تلوح حولها علائم الربح الوفير .

وحيث أن هذه الرساميل المستثمرة تشكل مبالغ ضخمة ، تقدر بالمليارات ، فإن أي تغيير في نسبة الفوائد يؤثر تأثيرا كبيرا على المستثمرين ربحا أو خسارة .

وسعر الفائدة هذا ينعكس على سعر الصرف ، وبخاصة النقد الذي يتمتع بقوة ذاتية . فالتحويلات إنما تكون بالدولار ، والأرصدة الضخمة إنما تقوم عليها البنوك المعتبرة ؛ فإذا ما انخفض سعر الفائدة في منطقة ما من مناطق المراكز التجارية المشهورة ، تنفجر الكارثة ، وتبدأ رؤوس الأموال المستثمرة في الهروب إلى مناطق أخرى ، فتنكشف البنوك في تلك المنطقة ، وتترنح المؤسسات المالية ، وينخفض سعر العملة ، حتى تطال الكارثة عملة البلدان المجاورة ، وتهبط أسعار العملات إلى حد يفقدها أو يضعف قوتها الشرائية ، وتبدأ البورصات في التخلص من معروضات الأسهم والسندات ، في سوق البورصات ، وتصبح هذه الأسهم عبئا على مالكيها ، يريدون التخلص منها بأي ثمن . وهنا يأتي دور قراصنة المال ، فإما أن يهربوا بأموالهم من السوق ، فينكشف السوق ، وتحدث الأزمة . وإما أن تكون قد امتلأت خزائنهم بالملايين . فلا يعدو كونها مقامرة تعتمد على ذكاء المضاربين الكبار وتلاعبهم في السوق ، وتأثيرهم وثقلهم في الدوائر والمؤسسات المالية .
وعندما وقعت الهزات المالية في بعض الأسواق ، خسر فيها الكثيرون ؛ وخسر البعض معظم رأس ماله ، ووصل حجم خسارة البعض أحيانا إلى (1.9) مليار دولار ، ووصل ما تكبده أحد البنوك (700) مليون دولار . وخسر (جورج سوروس) ملياري دولار في بورصة موسكو ؛ إنها خسائر فادحة . وهذا الملياردير المذكور هو أخطر المضاربين في العالم ، وهو يهودي ، ربح في إحدى المضاربات في منطقة الإسترليني مليار دولار في صفقة واحدة ، لخبرته في سوق المضاربات المالية ، وتشغيل رؤوس الأموال ، وقد صرح قائلا : إن الخشية من انهيار النظام الاقتصادي العالمي ، إنما يكمن في قيام الدول المتخلفة بإغلاق حدودها أمام تدفقات رؤوس الأموال ، لتحمي نفسها من آثار الأزمات ، كالأزمة التي أمسكت بعنق نمور آسيا وروسيا ، ثم دول أمريكا اللاتينية .

إن المصارف (البنوك) هي المستودع الذي تصب فيه كافة الأموال المتحركة في أسواق المال ، سواء منها الأموال الحقيقية ، أو الأموال الإسمية شبه الحقيقية . والمعاملات الاستثمارية هي رؤوس أموال متحركة متنقلة ، تداخل أسواقا فتنشطها ، وتبعث فيها الحيوية ، فيجري التفاعل بين مختلف القطاعات المالية والاقتصادية ، فتزدهر قطاعات الإنتاج ، وتزداد فرص العمل ، وتضمحل البطالة ، وترتفع أسعار الأسهم والسندات ، ويكثر الإقبال عليها ، وتستعر حمى المضاربات ، وترتفع مؤشرات البورصات ، وبسرعة فائقة يهتبل قراصنة المضاربات هذه الفرصة ، فيضربون ضرباتهم ، بعد أن كانت قد تحولت عشرات المليارات من الدولارات إلى حساباتهم وبجرة قلم ، أو مكالمة هاتفية يخفض سعر الفائدة في إحدى البنوك المعتمدة ، أو يجري تخفيض في أسعار بعض العملات ذات القوة الذاتية ، فتهرب المليارات بسرعة ويخلى السوق منها ، وتفتح لها أبواب الهرب إلى الخارج ، فتنكشف السوق وتقع الكارثة وينتشر صداها حتى يطال كافة القطاعات المالية والإنتاجية ، وتتفاقم الأزمة ، فتعلن الكثير من الشركات إفلاسها ، وتفرغ خزائن ميزانيات الدولة ، فيهرع مندوبو صندوق النقد الدولي لمعالجة الوضع المالي والاقتصادي في البلد ، ويحضرون معهم قوائم الشروط العلاجية ، ليتم على ضوء تنفيذها إسداء القروض ، كما يكون هناك العديد من الشركات الضخمة المتعددة الجنسية الرابضة على جوانب الساحة لتلتهم القطاعات العامة ، والتي ستتحول إلى قطاعات خاصة ، بفعل قوانين الخصخصة ، وبموجب اتفاقيات منظمة التجارة الدولية ؛ وتقع الفريسة في مخالب وحوش المال ، ويصبح البلد بكل مقدراته نهبا لهؤلاء الناهبين ، كما تصبح الدولة أو دول المنطقة برمتها مشلولة الحركة ، مكبلة الأيدي ، وتتحول النمور إلى قطط ، والصقور إلى دجاج .
بإيعاز من صندوق النقد الدولي وجهازه المتآمر ، أو بإيعاز من البنك الفيدرالي الأمريكي ، وبالتعاون مع وول ستريت ، يتم التنسيق بين هذه المؤسسات والنوادي نوادي المال ، وصناديق الاستثمار . وهذه كلها يقوم عليها رجالا مخضرمون مدربون يتقنون فنون المخادعة . أحدهم يملك مؤسسة مضاربة كبيرة ، ويكون عضوا في نادي مالي ، كما يكون مستشارا لأحد المصارف ، ويكون له ثقل في المؤتمرات الاقتصادية الدائمة ، مثل مؤتمر (دافوس) أو مؤتمر الدول السبع الفنية ، كما يكون مستشارا في بعض جوانب صندوق النقد الدولي ، أو يكون مندوبا في بعثة لاستقصاء أحوال اقتصاد بعض الدول ، أو ما شاكل ذلك ، مثل هؤلاء يكونون ملمين بأطراف القضايا الاقتصادية ، فيعرف أحدهم كيف يدخل الأسواق ، وكيف يحركها ، وكيف يخرج من الأسواق ، وكيف ينهب الأسواق ويخربها . فتقع المصائب ، وتنتشر البطالة ويعم الفقر ، وتعلن الشركات إفلاسها ، وتضطر الدول إلى جدولة ديونها وهلم جرا .
يوجد هناك نظام هرمي غير معلن للاقتراض ، فيما بين البلدان النامية حسب درجة الجدارة الائتمانية في أسواق المال العالمية . فعلى سبيل المثال : كان من الصعب على شركات ومصارف أندونيسيا أن تقترض قروضا قصيرة الأجل من أسواق المال العالمية بأسعار فائدة معقولة . فكانت الشركات الأندونيسية تلجأ إلى البنوك أو الشركات الكورية لكي تقترض لها ونيابة عنها مستفيدة من متانة المركز المالي الكوري ، مقابل (علاوة) تقوم البنوك والشركات الكورية بتعليتها على سعر الفائدة على القروض المقدمة لأندونيسيا . وفي المقابل تقوم الوحدات المصرفية الكورية بدورها بالاقتراض من البنوك وأسواق المال اليابانية لتغطية مراكزها وتدبير السيولة اللازمة . ولهذا فعندما انهارت الأوضاع في أندونيسيا وتعثرت الشركات الأندونيسية في سداد مديونياتها ، تأثرت بذلك أوضاع السيولة في البنوك والشركات الكورية ، التي أضرت بدورها بالأوضاع المصرفية في اليابان .

عندما وضعت أمريكا الأسس التي ستسير عليها في سياستها الاقتصادية ، وهي : صندوق النقد الدولي ، وأعطته الصلاحيات التي يستطيع بها أن يوقع الكوارث المدمرة في ميزانيات الدول بحجة معالجتها ، ثم البنك الدولي ، حيث جعلت منه مؤسسة يتربط بها مؤسسات مالية ضخمة من أجل إسداء القروض الطويلة الأجل ، وتبني المشاريع العمرانية الكبيرة ، وبخاصة البنى التحتية ، كالموانىء والمطارات والسكك الحديدية ، ومشاريع الري والكهرباء ، وغيرها من المشاريع غير الإنتاجية . وبعد ذلك وضعت الأسس والقواعد لمنظمة الجات منظمة التجارة الدولية ، من أجل إزالة الحواجز الجمركية ، وفتح الحدود بين الدول لتنقل رؤوس الأموال مع ضمانة حمايتها ، وحماية أرباحها ، مع تسهيل دخولها وخروجها في أي حين دون أية عراقيل ، ثم بعثت إلى الحياة مولودا جديدا هو موضوع العلمنة .
وأما الداء الوبيل ، والمرض القاتل ، فهو موضوع الديون ، هذه هي القيود التي تكبل بها أيدي وأرجل الدول المدينة ؛ حيث تجعلها مقودة بزمام طرفه في يد الدائنين ، والطرف الآخر ممسكا بأعناق المدينين .

أي أن هذه الديون هي الاستعمار بعينه ، والاستعباد بعينه ، وهي الفقر بعينه والذل بعينه ، والتبعية التي لا حد لها ، ولا مناص منها .

هذه قضية الديون ، يجب أن تلغى نهائيا وإلى الأبد ، وهذه واقعية البنوك ، فيجب أن تلغى نهائيا وإلى الأبد ، وهذه نتائج الربا (الفائدة) فهي محرمة بصريح النصوص وإلى الأبد ، وهذه آليات البورصات المالية ، وأسواقها الوهمية ، فيجب أن تزول وإلى الأبد وتستثمر الأموال في السوق التجارية بشكل فعلي يقوم تحرك السلع والخدمات ، والبضائع والمنتوجات الزراعية والتجارية والصناعية لتشارك فيه كل يد ، ويدخل كل بيت .

وموجودات أسواق البورصات موجودات وهمية ، وليست حقيقية ، إذ لا يوجد فيها سلع معدة لبيعها والمساومة عليها ومعاينتها ، ومواصفتها حيث إنها ، أولا : أوراق أسهم ، بورصات أسهم . ثانيا بورصات تجارية ، ثالثا أوراق مالية (سندات مالية) .

وأمامنا الآن ظواهر ثلاث تكتنف العالم بأسره وتحيط به من كل جانب :
1- الظاهرة الأولى هي فرقعة السلاح ، ودوي المدافع ، وهدير الطائرات ، وانقضاض الصواريخ ، واشتعال النيران ، مسبوقة بالإعداد لذلك بحشد من العلماء والمختصين في الإبداع التكنولوجي .
2- ثانيها : وهي التحرك السياسي ، والتصريحات واللقاءات ، والزيارات ، والندوات والمؤتمرات والتهديدات والإغراءات السياسية وحبك المؤامرات وتنفيذ المخططات .
3- ثالثها : وهي الأرضية الهادئة الصامتة ، والمخيفة المرعبة ، والمميتة المدمرة ، وهي التي من أجلها تسخر الظاهرتان الأوليان ، ألا وهي تحرك رأس المال ، والبناء الهيكلي الذي قام عليه صرح النظام الاقتصادي الرأسمالي ، واتخذ شرعة يستحل بها الحرام ويمتص بها الدماء ؛ تقوم عليها إبادة الشعوب ، وسلب ثرواتها ؛ فلا حلال إلا ما أحله الاستثمار والاستعمار ، ولا حرام إلا العوائق التي يحتمل أن تقف في طريق انسياب رأس المال ليدور دورته .

هذه الظاهرة الثالثة هي التي من أجلها تسخر الظاهرتان الأولى والثانية ؛ فويل للعالم من هذا الظلم الفادح المشروع . إن العالم بأسره يئن تحت وطأة أقدام هذا المشرع ، والذي وضع الأسس التي تبتني عليها هيكلية رأس المال ، والذي سخر العالم بأسره ، واستغل القطاعات البشرية ، والثروات الطبيعية ، وتحركت الآلة كلها لتحمي رأس المال هذا ؛ ولتفتح الطريق أمام هذا الأخطبوط ، ليطال بأذرعه كل بقعة من بقاع الأرض . فكان البر والبحر والجو مسارح لهذا الجهاز الضخم الهائل الذي يصب في المحصلة النهائية في جيب المستثمر الأمريكي أو الفرنسي أو الياباني .

انظروا أيها الناس وتأملوا ما هذه الأفاعي التي تنفث السموم القاتلة ؟ حيث لا ينجو منها أي بيت .

1- صندوق النقد الدولي .
2- البنك الدولي .
3- منظمة التجارة الدولية .
4- نادي باريس الدولي .
5- نادي لندن الدولي .
6- نادي نيويورك الدولي .
7- مؤتمر دافوس بسويسرا .
8- مؤتمرات الدول السبع الغنية .
9- صندوق إدارة المال .
10- الأسواق المالية (البورصات) .

فأية واحدة من هذه الرزايا تكفي لأن تلحق الأذى البليغ بالبلد الذي تحل فيه ، أو يرتبط بها ، أو تدمره وتلقي به إلى التهلكة . فكيف بها إذا اجتمعت وتكاتفت بعضها مع بعض ؟ فما مصير العالم ؟ وما سيحل بشعوب العالم ؟
وهذه التجمعات والمؤسسات يقوم عليها حفنة القراصنة الخطرين ، يدورون في حلبة الاقتصاد متكاتفين متعاضدين على اقتناص الفرائس ، وإنزال البلاء والدمار في أية ساحة يحلون بها ، ويتمكنون منها . فنجد أحدهم عضوا في مؤسسة ، ومستشارا في أخرى ، ومديرا لثالثة ، وشريكا في رابعة ، ومندوبا عن خامسة ؛ وهكذا أيديهم متشابكة كأنهم رجل واحد يتحرك بحركة واحدة ولمصلحة واحدة .

إن بناء الاقتصاد الرأسمالي بناء هرمي ، يقوم على أرضية فكرية أنتجتها عقيدة فصل الدين عن الحياة ، هذه الأرضية هي قاعدة الحريات العامة ، فالحرية الاقتصادية هي الخط العريض الذي أصبح أساسا لمختلف النظريات الاقتصادية ، ابتداء من آدم سميث وريكاردو إلى عمالقة المال الذين يمسكون اليوم بيد حديدية أزمّة مختلف القطاعات الاستثمارية ، صناعية وتجارية ، ومشاريع عمرانية وزراعية ، كما يتحكمون في أسواق المال ، يحركونها كما يشاءون ، يتقنون فنون المضاربات في أسواق البورصات ، فهم صيادون مهرة يجيدون مطاردة الفرائس ، ثم اقتناصها وامتصاص دمائها .

وعندما وضع آدم سميث وريكاردو وغيرهما أسس النظريات الاقتصادية ، تناولت هذه النظريات عقول مفكرة متخصصة في دنيا المال ، وأخذت تطورها على أرض الواقع ، ممتطية قوارب السياسة ، فكانوا يكيفون الواقع السياسي كما تمليه مصلحة المال ، وما تتطلبه حرية السوق ، ولو أدى ذلك إلى حرب عالمية . وقد اتخذ الاستعمار طريقة تسهل لهم تحقيق ذلك ، فنجحوا في ذلك إلى أبعد الحدود ، وفرضوا السيطرة العسكرية ، ثم استبدلوها بالسيطرة السياسية والاقتصادية والفكرية ، فكان استعباد الشعوب ، وإذلالها .

كانت فترة ما بين الحربين ، إلى نهاية الحرب الثانية ، فترة مخاض ، أنجبت عدة توائم ، هذه التوائم كانت تشكل منهجا معينا أو مدرسة تخرج منها عمالقة المال أو قراصنة المال ، الذين يتحكمون اليوم بمقدرات العالم بأسره .
الحجم السياسي والعسكري للولايات المتحدة الأمريكية ، اقتضى وجود هذه التوائم ، وفرضت أمريكا الالتزام بقواعدها ، والتقيد بشروطها ، فلا يجوز الخروج عليها . ومن الذي تتملكه الجرأة ليتحداها ؟

حاول كارل ماركس وإنلجز تحدي أسس النظام الاقتصادي الرأسمالي ، فوضع نظرياته الاشتراكية الخيالية ، ثم جاء لينين وستالين فحاولا كسر القيود وتجاوز الحدود التي وضعتها الرأسمالية ، ولكن هيهات . فقاوم ستالين تأسيس صندوق النقد الدولي وباقي المؤسسات الاقتصادية ، ولكن دون جدوى ، وبنت العمالقة ، ووجدت المؤسسات والتجمعات والنوادي والمؤتمرات الاقتصادية والمالية ، وترعرع في ظلها عمالقة المال ، وقراصنة المال ، فكانوا هم المؤسسات بعينها .

والآن :-
1- كيف تجري المضاربات المالية ؟
2- كيف تحدث الهزات في الأسواق المالية ؟
3- كيف يضرب اقتصاد دولة ما ، وتصاب بالانهيار الاقتصادي ؟
4- كيف تعلن بعض المؤسسات إفلاسها ؟

هيكلية المال ، والبناء الاقتصادي ، وحركة الأسواق تقوم على تشابك بين عدة مؤسسات وتجمعات ، تشكل كل واحدة منها ركيزة أساسية من ركائز هذا البناء الهرمي ، الذي يبتدىء بصندوق النقد الدولي ، ثم تأتي شركات المصارف الضخمة ، سواء البنوك الفيدرالية المركزية ، أو البنوك الكبيرة المعتمدة ، وكذلك التجمعات المالية كالنوادي المالية ، وإدارات المؤسسات الاستثمارية .
هذه الهيكلية الهرمية يقوم عليها أشخاص ذوو موهبة فذة في التخطيط لنصب الفخاخ بفتح أسواق للمال (بورصات) يقومون بمضاربات أي مزايدات تبتدىء من خط معين (مؤشر) فيرتفع هذا الخط إذا شاءوا رفعه ، وإلى حد يرون فيه التخمة ، ثم يلجأون إلى لعبة مشروعة يفترضون عندها أمرا مباشرا أو غير مباشر لتنخفض سعر الفائدة عند إحدى البنوك المعتبرة ، أو يجري التخفيض في سعر عملة ما من عملات دول المجال ، وفي الغالب ما يكون ذلك إما بإيعاز من صندوق النقد الدولي أو بتأثير منه . فتبتدىء الكارثة ويتعمق تأثيرها وتتسع وتتمدد ، ويطال لهيبها مناطق عديدة ، فتبتلع بضعة حيتان الملايين من الأسماك الصغيرة ، وكأنها شريعة الغاب .

ولذا كيف تتكون وتنعقد الأسواق على سلع أو خدمات وهمية وتجري المضاربات والمزايدات فيها إما بإشارة باليد أو بمكالمة هاتفية أو عبر فضائيات الإنترنت ، وعلى مبالغ ضخمة تقدر بالمليارات ؟

فهل هذه أسواق حقيقية ؟ وما هي موجوداتها ؟ إنها نوع من المقامرة الذكية الخادعة ، إنها نوع من ممارسة البيع والشراء الوهمية ، وعلى سلع وموجودات وهمية .
فلو كان النظام النقدي في العالم مبنيا على قاعدة نظام الذهب ، لما جرؤ أحد أن يقوم بهذه المضاربات ، ولما عقدت هذه الأسواق ابتداء . فأن يفتح سوق تكون موجوداته المعروضة للبيع والشراء والمضاربات والمزايدات سلعا وهمية هي الأسهم والسندات والأوراق المالية ، وأن يتم ابتياع مال بمال دون أن تجري الصفقات على سلع وبضائع حقيقية ، وأن تكون الصفقات بالملايين والمليارات ، وأن تتم هذه العملية بإشارة باليد أو مكالمة بالتلفون ، وأن يحصل الارتفاع الحاد في الأسعار أو الهبوط الحاد في ساعات أو دقائق فيفشي ويسري كسريان النار في الهشيم هبوطا أو ارتفاعا ، فليس كل هذا إلا تلاعبا قائما على المخادعة والاختلاس ، وليس إلا أساليب النهب والسلب ، لا يصل الناس سواد الناس من كل هذا إلا لهيب يأتي على ما في بيوتهم ومطابخهم ، ونقول الحرية الاقتصادية ، ونقول جهاز الثمن وميكانيكية الثمن ، فالأسواق ملأى بالسلع الحقيقية ، والفقراء يملأون الشوارع ، خاوية أيديهم وبطونهم . ونقول العالم ، ونقول بالمساواة ونقول حقوق الإنسان ، وحقوق الطفل ، وحقوق المرأة ، هل يوجد في كوسوفو والبوسنة والهرسك شيء يسمى حقوق الإنسان أو حقوق الطفل أو حقوق المرأة ؟
هناك ما يسمى :
1- (اقتصاديات المحور) وهي الاقتصاديات الأكثر تقدما وثراء .
2- (اقتصاديات الحدود أو المحيط) وهي الاقتصاديات الأقل تقدما وثراء .
اقتصاديات المحور استفادت كثيرا من الضربات المالية التي أصابت بعض الدول وفي الحقيقة ، فإن اقتصاديات المحور هي التي تخطط كي تحل الضربات باقتصاديات الحدود ، ثم تلتهمها وتبتاعها ، إذ يعترف أغنياء العالم ، وفي مقدمتهم أمريكا ، بأنهم استفادوا من الأزمات التي حلت بالفقراء . وهذا يعني أن الطعام الذي سلب من فقراء تايلاند وأندونيسيا ، تحول إلى سلع مترفة تمتع بها أغنياء أوربا وأمريكا .

وهذا يؤكد الظلم البين للنظام المالي ، والاقتصاد العالمي الذي يهدد بأن يتحول 80% من سكان العالم إلى ناس بؤساء ، لن يمكنهم الحياة إلا بما يمنح لهم من صدقات وتبرعات .

هذا الاعتراف هو من كبير المضاربين العالميين وهو : جورج سوروس ، ليس شفقة على الفقراء ، وإنما هو تنبيه للأغنياء ، أي محاولة لإنقاذ الأغنياء .

هذا الملياردير الكبير يحذر من اتخاذ إجراءات تغلق الأسواق أمام تدفقات ملياراتهم ، مثلما فعل مهاتير محمد في ماليزيا ، بعد الأزمة ، حين أغلق حدود بلاده في وجه تدفق الرساميل الخارجية ، وبذلك نجح في الحد من تأثير الأزمة المالية عليه .

الذي يخشاه هذا المضارب الكبير (جورج سورس) هو إغلاق الحدود ، باعتباره مضاربا يكسب من تحريك العملات والأسهم والسندات عبر الحدود بين دول العالم المتخلفة ، حتى على الورق أو على شاشات الكمبيوتر . وإغلاق الحدود معناه أن يصاب بالشلل ، ويتعرض لضربات مالية .

يوصي هذا الملياردير وبإلحاح إلى بذل جهد كبير في مساعدة (دول الأزمة) على التخفيف من معاناتها . والأهم وضع بعض القواعد التي تضمن تدفق رؤوس الأموال عبر دول العالم بحرية ، وتضمن عدم إغلاق الحدود القومية في وجهها .

يقترح أن الاختيار ينحصر : إما في تنظيم الأسواق بشكل عالمي ، أو تركها لكل دولة على حدة لكي تحمي مصالحها ؛ وهو ما سيؤدي إلى انهيار النظام المالي العالمي ، الذي يمرح في أرجائه المضاربون ، ويحققون أرباحا ومليارات الدولارات .
إذن يقترح إقامة مؤسسة تأمين دولية برأسمال قدره (150) مليار دولار لمساعدة دول الأزمات المالية ، واقتراح آخر بإعادة تنظيم النظام البنكي .

هذا الرجل (جورج سورس) صاحب كتاب (الرأسمالية العالمية في أزمة) وصفته إحدى الصحف بأنه الرجل الذي يحرك الأسواق في العالم ، يحذر في كتابه هذا الذي لاقى رواجا عظيما ، يحذر من انهيار النظام الاقتصادي العالمي ، إذا لم يتم تنظيم الأسواق المالية بشكل عالمي ، حتى يضمن عدم قيام الدول المتخلفة بإغلاق حدودها أمام تدفقات رؤوس الأموال ، لتحمي نفسها من آثار الأزمة التي أمسكت بعنق نمور آسيا وروسيا ثم دول أمريكا اللاتينية ، وقد تزحف إلى أوربا وأمريكا .
تفتحت الأبواب على مصاريعها في ظل العولمة في البلدان المتقدمة ، وارتفعت كتلة الأموال والمدخرات (بلا حدود) وهي التي تتم بها المخاطرة والمضاربة في أسواق المال وراء (التكاثر المالي) هذا التكاثر الذي حصل انفصام حاد بينه وبين التراكم الإنتاجي ، والذي أصبح سمة مميزة للتطور الرأسمالي الحديث في ظل صعود (رأس المال الحالي) واتساع شركات السمسرة والوساطة المالية ، وصناديق الاستثمار ، وصناديق التحوط .

والذي أعطى دفعة قوية لعمليات العولمة المالية خلال الثمانينات والتسعينات هو أن 38% من مدخرات وثروات القطاع العائلي في الولايات المتحدة و 56% من أموال صناديق التأمينات والمعاشات مستثمرة في أسهم وأوراق مالية .
إن حرية التجارة التي سارت لقرون طويلة في مجال السلع والخدمات الحقيقية ، لا تكفي وحدها لخلق نظام اقتصادي (معولم) فالعولمة في مسيرة التطور الرأسمالي المعاصر ، لا يكون امتدادها وحركتها وتأثيرها ، في الأموال والاقتصاديات الثابتة غير المتحركة ؛ فالأرض والعقارات ، والموارد الطبيعية غير قابلة للانتقال ، فضلا عن صعوبات جمة تواجه التنقلية الكاملة للبشر ، فيما بين البلدان المختلفة ، لذا تصبح حركة وحرية انتقال رأس المالي وتدفق المعلومات ، وحركة المنظمين ، ورجال الأعمال هي التي تكسب الرأسمالية سمة العولمة في صورتها الراهنة .

المواجهة العسكرية بمعناها الحقيقي ، أي بمستوى الاستراتيجية النووية ، وبحجم المخزون النووي والصاروخي ، قد انتهت ، فلا مكان لها الآن . فالأطراف التي كانت تتزاحم على المصالح ، وتتسابق على اقتعاد مركز الدولة الأولى ، هذه الأطراف المؤهلة للتسابق والمزاحمة لم يبق لها وجود .

لكن الذي بقي هو الأخطر من ذلك على المجموعات البشرية ، ألا وهو استطالة رأس المال ، وضخامة رأس المال ، واختراقه الحصون والقلاع ، وتحويلها إلى أكواخ لا تقي حر الصيف ، ولا برد الشتاء .

قضايا العالم الاقتصادية ، تتمثل في تجمعات سكانية تعتمد على روابط تقليدية ، ولكنها تعالج سياسيا ، وهذه القضايا هي :
1- قضية الشرق الأوسط .
2- قضية الشرق الأقصى .
3- قضية القارة الأفريقية .
4- قضية أوربا شرقيها وغربيها .

هذه القضايا التقليدية التي وجدت بموجب التجمع السكاني والتقاء المصالح الحدودية ، وتداخل العلاقات المشتركة التي تفرضها جغرافية المنطقة قد ظهرت بحجوم مختلفة ، فكانت النظرة إليها تختلف كل واحدة عن الأخرى ، وعلاجها ليس بالتساوي كل واحدة بشكل الأخرى .
هذه الهيكلية الاقتصادية القديمة ، لا تتلاءم مع الوضع الجديد في العالم ، والذي من أجله وضعت قوانين الخصخصة والعولمة . أي إن هناك اختراقا جديدا ومزعجا للهيكلية القديمة ، فهذه الهيكلية التقليدية قد اخترقت ، وبدأ العد التنازلي لنقضها وتذويبها .

وحيث إنها هياكل قامت بحسب التقسيمات السكانية ، كان الأجدر ، أن يحل محلها الهياكل الدولية التي تأسست بمرسوم دولي ، مثل منظمة التجارة الدولية الحرة ، التي وقع على بنودها ورضي بشروطها (134) دولة وهذا صندوق النقد الدولي ، وقد وقع عليه كافة دول مجموعة هيئة الأمم المتحدة ، عدا المجموعة الاشتراكية باستثناء رومانيا ، وهذا البنك الدولي ، فقد أعطي صلاحياته مع قرارات تصفية الحرب العالمية الثانية ، وقد ساهمت فيه جميع الدول المشتركة في صندوق النقد الدولي .

قلنا إن تحركات رأس المال هي أخطر من انقضاض الصواريخ وهذه الخطورة متمثلة في ما يسمى امبراطوريات رأس المال ، التي وجدت الدول الرأسمالية لحمايتها ، وعلى رأس هذه الدول أمريكا تليها بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان ، فهذه الدول المذكورة ، إنما هي قائمة بهذه الامبراطوريات ، فهي مسخرة لحمايتها وتسهيل السبل لها ، وفتح أبواب العالم أمامها .

في جزيرة مالطة الصغيرة التي تقع في الجهة الغربية للبحر المتوسط ، عقد الرئيسان الأمريكي ريغان ، والروسي غورباتشوف ، اجتماعا جرى التوقيع فيه على إنهاء الحرب الباردة ، وبهذا التوقيع كان غورباتشوف قد وقع على شهادة الوفاة للاتحاد السوفيتي .

انتهت الحرب الباردة لتحل محلها حرب ساخنة ، ولكن على نار هادئة ؛ فهي ساخنة ، ولهدوء النار التي تحركها لا يشعر بسخونتها ، إلا الأطراف المعنية بها ، هذه الحرب الجديدة هي الحرب الاقتصادية ، حرب المال ، تناطح الشركات ، المزاحمة على الأسواق ؛ فقد عمد الساسة المعنيون بهذا الأمر إلى اتخاذ إجراءات ، وإيجاد مؤسسات دولية ، وتفعيل قوانين المنظمات الاقتصادية الدولية ، لفتح الأبواب ، وكسر الحواجز لينساب رأس المال بحرية ، ودون أية عوائق ، وتمهد له السبل ليدخل فاتحا يلقى الترحيب . ولكنه ينساب انسياب الثعبان ، يحمل في جوفه سما ناقعا ، وإن كان عام الملمس . وهكذا يتنقل من قطر إلى قطر ، ومن قارة إلى قارة .

ساعد على تلك التغيرات والتحولات الهائلة التي ظهرت في مجال حركة الأموال الكبيرة ، وفي ظل العولمة الجديدة ، التوسع المذهل في شبكة الاتصالات الإلكترونية ، التي سهلت عملية إعادة تدوير الأموال ، خاصة (رؤوس الأموال قصيرة الأجل) بين جميع أرجاء العالم ، على الأربع والعشرين ساعة . إذ أن تلك الأموال تتحرك بسرعة تقترب من سرعة الضوء ، ما بين نيويورك ، زيورخ ، لندن ، طوكيو ، وغيرها من المراكز المالية المتقدمة ، حيث لم يعد للمال أية هوية وطنية محددة ، مثل شركة (الاستثمار الأمريكية فيما وراء البحار) حيث لها استثمارات في (144) دولة.
لقد وجدت الشركات متعددة الجنسية ، وفتحت الأسواق على مصاريعها (حرية السوق) وكانت العولمة هي الثوب الفضفاض ، الواسع الأطراف الذي تتجلى به العروس ليلة زفافها ، ثم بدأ تفعيل قوانين المؤسسات الدولية ، وتفعليها يعني توجيه الضربة القاضية للتنظيمات والتجمعات الاقتصادية الإقليمية التقليدية . وهذه الإجراءات الجديدة أخذت تشق طريقها إلى النجاح ، فبدأت الضربات تتتالى على هذه التنظيمات ، وبدأت تهتز ويظهر عليها التفسخ والهزال ، وبعضها الآن يترنح ، وسقوطه سيتم بين عشية وضحاها ، مهما قيل إن بعضها أخذ يسترد عافيته ، وذلك مثل دول جنوب شرق آسيا وروسيا .

لقد اتسعت الهوة بين حرية التجارة الدولية في السلع الحقيقية والخدمات من ناحية ، وحركة الأموال والعملات المتحركة بسرعات مذهلة من ناحية أخرى . ففي عام 1995 على سبيل المثال بلغ حجم الاتجار في العملات نحو (1.2) ترليون دولار في اليوم الواحد ، وهو رقم يشكل نحو خمسين ضعفا من قيمة التجارة الدولية في السلع والخدمات الحقيقية .

نعم لقد بدأت الضربات توجه إلى التنظيمات والتجمعات الإقليمية التقليدية ؛ وقد ظهر تأثيرها في مجموعة دول جنوب شرق آسيا سنة 1997 . فالانهيار الفظيع الذي لحق باقتصاد هذه الدول ، والاختلال الكبير في ميزانها التجاري ، وفي ميزان مدفوعاتها ، ظهرت نتائجه للعيان ، وتلا ذلك الانهيار الفظيع في الاقتصاد الروسي ، فروسيا الآن تعاني المعاناة المرة مما أصاب اقتصادها ، وعملتها ، وميزانيتها ، الأمر الذي أوصلها إلى حافة الموت . ثم تلتها البرازيل ، وهي البلد الأقوى في دول أمريكا اللاتينية ، ولا يزال اقتصاد البرازيل في غرفة الإنعاش .
فدول جنوب شرق آسيا ، وأمريكا اللاتينية ، وروسيا ، يشكل اقتصادها نصف الاقتصاد العالمي ، قد أصيب بنكسات وضربات قاتلة ، وأخذ الذوبان يظهر على هذه التنظيمات جراء تفعيل قوانين صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، ومنظمة التجارة الدولية ، ثم تبعها تفعيل قوانين الخصخصة والعولمة .

والآن بدأت تسدد الضربات إلى منظمة السوق الأوربية والاتحاد الأوربي ؛ وقد اضطلع بهذا الدور حلف الأطلسي ، لأن أوربا ، لا بد أن تضرب من داخلها ، أي تضرب نفسها بنفسها ، كما تخطط لذلك الولايات المتحدة الأمريكية .

ومن كان يظن في يوم من الأيام أن يكون حلف الأطلسي الذي وجد لحماية أوربا ، وتوفير الأمن لها ، أن يكون هو الأداة التي تغل بها قوة أوربا السياسية ، وهو الأداة التي يضرب بها الاقتصاد الأوربي ؟

فالاتحاد الأوربي قد عقد مؤتمر الشراكة في بنكوك مع عشر دول من جنوب شرق آسيا ، وهو مؤتمر اقتصادي كان مغلقا أمام أمريكا وروسيا . كما عقد الاتحاد مؤتمر الشراكة في برشلونة مع اثنتي عشرة دولة من دول الجوار للمتوسط ، وكذلك كان مغلقا أمام أمريكا وروسيا .

وهذه أمريكا الآن قد اقتحمت حصون الاتحاد بحلف الأطلسي ، واخترقت قوانينه وأنظمته ، بتفعيل قوانين منظمة التجارة الحرة ، إضافة إلى الإجراءات المضادة بفرضها جمارك على مستورداتها من دول الاتحاد بنسبة 100% ووضع الاتحاد أمام محكمة منظمة التجارة الدولية لإدانته .

أما منظمة السوق العربية المشتركة ، فلا قيمة لها ، ولا وزن لها ، وتكاد تكون لا وجود لها ، مثلها مثل منظمة السوق الإفريقية . وأما منظمة الأوبك فهي الآن تحت رحمة المضاربات والمزايدات المالية العالمية ، فهي لا تملك اتخاذ أي قرار .
بعد هذا كله ، برزت دوائر المال ، ومؤسسات المال ؛ وتفتحت الأسواق ، وبدأت التجارة بالمال في أسواق البورصات وارتفع لهيب المضاربات والصفقات الضخمة ، التي تجاوزت كل التقديرات ، وكل الحدود ، حتى أصبحت هي نفسها خطرا على هذا النظام الرأسمالي المخيف ، أي سيتحطم هذا النظام بيد أصحابه وعلى رؤوسهم . وسوف لا تفيد توجيهات عالم الاقتصاد الأمريكي (كنز) في التدخل دوليا لوضع القيود وفرض القوانين والرقابة على هذا الانقلاب لرؤوس الأموال الهائلة . فهذه كبرى الشركات المالية لإدارة المخاطر في الأصول المالية في الولايات المتحدة المسماة (LTCM) إدارة رأس المال طويلة الأجل ، قد انهارت . وكانت هذه الشركة تتعامل في محافظ مالية بحدود (200) مليار دولار أمريكي ، وأصبحت على حافة الإفلاس ، وهي الشركة (النجم) على الصعيد العالمي .

وتفعيل قوانين المنظمات الدولية المالية ، يكرس الآن ، لرفع القيود ، وفتح الحدود وإعطاء الحرية الكاملة لانسياب رؤوس الأموال الضخمة ، دخولا وخروجا ، لتنهب وتخرب وتمتص الدماء .

لكن في هذا مقامرة ، يمكن الوقوف أمام تنفيذها واستمرارها ، ويمكن عرقلتها وإيقافها ، ويمكن كسرها وتحطيمها ، فتصبح هذه الأموال المتحركة كالنار ، تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله ، وهذا نذير من النذر المتعددة باقتراب أجل النظام الرأسمالي ، وشربه الكأس الذي شربه الاتحاد السوفيتي من زمن قريب .

( انتهى )

الأحد، 26 أكتوبر 2008

تعريف السياسة - لمحمد فتحي رسليم رحمه الله

عرّف العلماء السياسة بأنها (فن الممكنات أو فن الممكن)، ذلك من حيث أن كلمة ممكن تعني المعنى الحقيقيَّ لها وهي ما يقابل المستحيل والواجب، لأن السياسة ليست فنَّ المستحيل، بل هي فنُّ الممكن فقط، فالأفكار التي لا تتعلق بالممكنات أو على الأصح التي لا تتعلق بالوقائع الممكنة وبالواقع فإنها ليست سياسيةً، وإنما هي فروضٌ منطقية أو مجردُ خيالات أو تخيلات, فمتى تكون الأفكار أفكاراً سياسية أي حتى تكون الأفكار سياسيةً فلا بد أن تتعلق بالممكن، لذلك كانت السياسة فنَّ الممكن لا فن المستحيل.

وحتى يكون المرء سياسياً لا بد أن يكون لديه تجربةٌ سياسية، ولأجل أن تكون لديه التجربة السياسية لا بد أن تتوفر لديه ثلاثةُ أمور هامة:
إحداها: المعلومات السياسية.
الثاني: الدوام على معرفة الأخبار السياسية الجارية.
ثالثها: حسن الاختيار للأخبار السياسية.

1:- أما المعلومات السياسية فهي المعلومات التاريخية لا سيما حقائق التاريخ، ومعلومات عن الحوادث والتصريحات والأشخاص المتعلقة بهم من حيث الوجه السياسي سواء أكان خبراً أو عملاً أو قاعدة: عقيدة كانت أو حكماً، وبدون هذه المعلومات لا يستطيع المرء فهمَ الفكر السياسي مهما أوتي من ذكاء وعبقرية، لأن المسألةَ مسألةُ فَهْمٍ لا عقل.

2:- وأما معرفة الأخبار الجارية ولا سيما الأخبار السياسية، فلأنها معلومات ولأنها أخبار عن حوادث جارية، ولأنها هي محل الفهم ومحل البحث، لذلك لا بد من معرفتها، ولما كانت حوادث الحياة تتغير قطعاً وتتجدد وتختلف وتتناقص، فلا بد من دوام متابعتها حتى يظلَّ على علم بها أي حتى يظل واقفاً على محطة القطار التي يمر عنها القطار فعلاً، لذلك لا بد من دوام تتبع الأخبار بشكل لازم ومتتابع، بحيث لا يفوته خبرٌ سواء أكان مهماً أو تافهاً، بل يجب أن يتحمل عناء البحث في كومة تبن من أجل حبة قمح وقد لا يجدها، لأنه لا يعرف متى يأتي الخبر المهم ومتى لا يأتي، من أجل ذلك لا بد من أن يظل على تتبُّعٍ للأخبار كلها سواء التي تهمه والتي لا تهمه، لأنها حلقات مرتبطة بعضها ببعض، فإذا ضاعت حلقة فُكَّت السلسلةُ، وصَعُب عليه معرفة الأمر، بل قد يفهم الأمر خطأً ويربط الواقع بخبر أو بفكر انتهى وذهب ولم يعد قائماً، ولهذا لا بد من تتبع الأخبار بشكل متتابع حتى يتسنى فهمُ السياسة.

3:- وأما اختيار الأخبار فإنما يحصل بأخذها لا بمجرد سماعها، فهو لا يأخذ إلا الخبرَ الهامَّ , فهو إذا سمع أن رئيس وزراء فرنسا سافر إلى لندن فإنه يسمعه ويأخذه, ولكنه إذا سمع أن مستشار ألمانيا اجتمع بالأمين العام لهيئة الأمم فإنه يسمعه ولا يأخذه, إذ يجب أن يميز بين ما يَأْخُذ ومالا يأخذ , وإن كان يسمع الأخبار كلها ,لأن الأخذ إنما يكون للأخبار التي مِنْ أخْذِها فائدةٌ يأخُذُها ولا يكون لغيرها, ولو كانت قد تُشَكِّل معلوماتٍ، وهذا هو التتبع للأخذ لا لمجرد السماع.
والسياسة بمعناها المحلي كرعاية شؤون الأمة وشؤون الدولة، وإن كانت هامة ولكنها لا يصح أن تكون محلَّ الاهتمام، ولا يصح الاقتصارُ عليها لأن جعلَها محلَّ الاهتمام، يعني الأنانيةَ والعمل للذات، وكونه يضر في إيجاد الصراع الداخلي بين السياسيين ثم بين أفراد الأمة أو فئات منها، وفي هذا ضرر على الدولة وعلى الأمة ولأن الاقتصار عليها فوق كونه لا يجعل المرء يدرك السياسة، فإن فيه غفلةً عن شئون الأمة، والسياسي لا بد أن يرعى شؤون أمته حتى يكون سياسياً، وهذا لا يتأتى إلا بالاهتمام بشئون الأمم الأخرى والدول الأخرى، فعلاقة السياسة الدولية والسياسة الخارجية بالسياسة علاقةُ جزءٍ من كُلٍّ بل الجزءُ الجوهري الذي يُكَوِّنها.
والسياسة الخارجية والسياسة الدولية التي يجب الاهتمام بها هي سياسةُ الأمم المؤثرة لا جميعَ الأمم وسياسةُ الدول المؤثرة لا جميع الدول، لا سيما فيما له علاقة بأمته أو دولته أو العقيدة التي تقوم عليها الدولة, ومن هنا كانت السياسة الخارجية والسياسة الدولية إنما تعني سياسةَ الأمم المؤثرة والدول المؤثرة لا سيما المؤثرة على سياسة أمته ودولته, سواء أكان هذا التأثير قريباً أو بعيداً, فمثلاً: أن يعرف انقلاباً حصل في هايتي ليس مُهمّاً أن يعرفَه, ولكن انقلاباً حصل في البرازيل من الضروري أن يعرفه, لأن الأول لا يؤثر في الوضع الدولي ولا تأثيرَ له على أمته أو دولته.

يجب على الأمة الإسلامية أن تعرف أن الدول غير الإسلامية عدوة لها وتتربص بها الشرَّ بشكل دائم, وأن جميع الدول عدوة للدولة الإسلامية وتتربص بها الدوائر, وتشتغل بالمؤامرات والتحضيرات لإضعاف الدولة الإسلامية ولقهرها والقضاء عليها,
ولذلك يجب أن تكون الأمة كلها لا سيما السياسيين مشغولةً باتقاء الخطر الخارجي أي أن تظل مشغولةً في السياسة الخارجية والسياسة الدولية بالمعرفة والتتبع وإبصار مواطن الخطر.

على أن الدولة الإسلامية لا تعني أنها الحكام بل هي الأمة التي تحت سلطان الخلافة فعلاً, فالأمة كلها هي الدولة، والدول الكافرة تعرف ذلك وتعمل على أساسه, وما دامت الأمة مدركةً أنها هي الدولة فإنها تظل متتبعةً لأخبار وأحوال الدول الأخرى والشعوب والأمم الأخرى حتى تظل على وعي على أعدائها وحتى تظل في استنفار فعلي ضد جميع الأعداء, ولهذا يجب أن تظل أخبارُ السياسة الخارجية شائعةً في الأمة كلِّها مُدرَكة من الناس بشكل عام وأن يكون هَمُّ السياسيين والمفكرين إطلاعَ الناس على السياسة الخارجية, حتى إن الناس حين يوكلون عنهم نواباً في مجلس الأمة للمحاسبة والشورى إنما يختارون على أساس السياسة الخارجية والسياسة الدولية لأن هذا هو الذي يجب أن يكون لدى وُكَلائها في مجلس الأمة, أما السياسيون والمفكرون بشكل عام فإن معرفة السياسة الخارجية والسياسة الدولية لا بد أن تكون هي الطاغيةَ على أعمال السياسيين وأفكارِهم, وهي الموجودةَ بشكل بارز لدى المفكرين وفي تفكيرهم وأفكارهم, لأن المسلم إنما وُجِد من أجل الإسلام, وإنما وجد من أجل الدعوة الإسلامية, وإنما يعيش من أجل هذا الدين في حمايته ونشر دعوته، وإذا كان الجهاد هو ذِروَةَ سنام الإسلام فإن حمل الدعوة الإسلامية هي الغاية التي من أجلها يكون الجهاد, وهذا يستوجب معرفة السياسة الخارجية والسياسة الدولية, على أنه بغض النظر عن هذا فإن الدولة التي تطمع أن يكون لها تأثيرٌ ما وأن تتمتع بالنفوذ والمجد تجعل السياسة الخارجية وسيلة لتثبيت مركزها في الداخل والخارج, وإذا كان هذا هو الواقع فإن على السياسيين والمفكرين أن يحيطوا بالسياسة الخارجية والسياسة الدولية سواء أكانوا في الحكم أو خارج الحكم لأن هذا هو الذي يجعلهم سياسيين أي راعين لشئون أمتهم لأن الشئون العليا للأمة إنما تتمركز في السياسة الخارجية والسياسة الدولية, ومن هنا كان واجب الأحزاب السياسية كلها والسياسيين عموماً ورجال الفكر والعلم أن تكون السياسة الخارجية والسياسة الدولية أهمَّ ما يشتغلون به.

وإذا كان لا بد من معرفة السياسة الخارجية والسياسة الدولية لا سيما للسياسيين والمفكرين والعلماء فإنه لا يصح الاقتصار على معرفة القواعد العامة والخطوط العريضة أي لا يصح الاقتصار على الإجمال والنتائج, فإن هذه إذا جرى الاقتصار عليها وإن كان مفيداً ولكنه لا يكفي لإدراك الخطر ولا لمعرفة كيفية الاتقاء ولا لفهم الحوادث والوقائع : النوايا والأهداف, بل لا بد من معرفة التفاصيل والأعمال والحوادث ثم تحليلها والوقوف على النوايا والأهداف. والعدو حتى تَعرِفَ نواياه تجاه الدولة والأمة, لا بد من أن تعرف كلامَه أوّلاً ووضع هذا الكلام, وثانيها تصرفاته والظروف التي جرت فيها هذه التصرفات, وثالثاً علاقاته ووضع هذه العلاقات, ومن غير معرفة هذه الثلاث لا يمكن الاطلاع على نوايا العدو, وهذه الثلاث تحتاج معرفَتُها إلى معرفة التفاصيل, فالكلام لا بد من معرفة تفاصيله وتتبعها حتى تُدرَك الأوضاعُ التي قيل فيها هذا الكلام وكذلك التصرفات والعلاقات, وهذا يحتم معرفة التفاصيل.
وربما تُجرِي بعضُ الدول الكبرى سياسَتَها الخارجية أو سياستها الدولية عن طريق العملاء حتى في أحلك الظروف وعند أعقد المشاكل السياسية الدولية.
فما لم تُعرَف التفاصيلُ فإنه لا تكون السياسةُ قد عُرِفَت ولا صار المرءُ سياسياً وبالطبع لا تُدرَك النوايا والأهداف عند صانعي السياسة.

25 شوال 1427هـ
16/11/2006م

الأحد، 5 أكتوبر 2008

قصة أبو قدامة والغلام

أبو قدامة والغلام


--------------------------------------------------------------------------------


كان بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له
أبو قدامة الشامي، وكان قد حبب الله إليه الجهاد في سبيل
الله والغزو إلى بلاد الروم، فجلس يوماً في مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتحدث مع أصحابه ، فقالوا له :
يا أبا قدامة حدثنا بأعجب ما رأيت في الجهاد ؟ فقال أبو
قدامة نعم إني دخلت في بعض السنين الرقة أطلب جملاً
أشتريه ليحمل السلاح ، فبينما أنا يوماً جالساً إذ دخلت
علي امرأة فقالت : يا أبا قدامة سمعتك وأنت تحدث عن
الجهاد وتحث عليه وقد رُزقتُ من الشَّعر ما لم يُرزقه
غيري من النساء ، وقد قصعته وأصلحت منه شكالا للفرس
وعفرته بالتراب كي لا ينظر إليه أحد ، وقد أحببت أن
تأخذه معك فإذا صرتَ في بلاد الكفار وجالت الأبطال
ورُميت النبال وجُردت السيوف وشُرعت الأسنّة ، فإن احتجت
إليه وإلا فادفعه إلى من يحتاج إليه ليحضر شعري ويصيبه
الغبار في سبيل الله ، فأنا امرأة أرملة كان لي زوج
وعصبة كلهم قُتلوا في سبيل الله ولو كان عليّ جهاد
لجاهدت.

وناولتني الشكال . وقالت : اعلم يا أبا قدامة أن زوجي
لما قُتل خلف لي غلاماً من أحسن الشباب وقد تعلم القرآن
والفروسية والرمي على القوس وهو قوام بالليل صوام
بالنهار وله من العمر خمس عشرة سنة وهو غائب في ضيعة
خلفها له أبوه فلعله يقدم قبل مسيرك فأوجهه معك هدية إلى
الله عز وجل وأنا أسألك بحرمة الإسلام ، لا تحرمني ما
طلبت من الثواب.

فأخذت الشكال منها فإذا هو مظفور من شعرها. فقالت: ألقه
في بعض رحالك وأنا أنظر إليه ليطمئن قلبي. فطرحته في
رحلي وخرجتُ من الرقة ومعي أصحابي ، فلما صرنا عند حصن
مسلمة بن عبدالملك إذا بفارس يهتف من ورائي: يا أبا
قدامة قف علي قليلاً يرحمك الله ، فوقفت وقلت لأصحابي
تقدموا أنتم حتى أنظر من هذا ، وإذا أنا بفارس قد دنا
مني وعانقني وقال: الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم
يردني خائباً. قلت للصبي أسفر لي عن وجهك ، فإن كان يلزم
مثلك غزو أمرتك بالمسير ، وإن لم يلزمك غزو رددتك ،
فأسفر عن وجهه فإذا به غلام كأنه القمر ليلة البدر وعليه
آثار النعمة.

قلت للصبي : ألك والد ؟ قال: لا بل أنا خارج معك أطلب
ثأر والدي لأنه استشهد فلعل الله يرزقني الشهادة كما رزق
أبي. قلت للصبي: ألك والدة ؟ قال: نعم . قلت : اذهب
إليها فاستأذنها فإن أذنت وإلا فأقم عندها فإن طاعتك لها
أفضل من الجهاد، لأن الجنة تحت ظلال السيوف وتحت أقدام
الأمهات. قال: يا أبا قدامة أما تعرفني قلت: لا. قال:
أنا ابن صاحبة الوديعة، ما أسرع ما نسيت وصية أمي صاحبة
الشكال، وأنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد، سألتك
بالله لا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، فإني حافظ
لكتاب الله عارف بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
عارف بالفروسية والرمي وما خلفت ورائي أفرس مني فلا
تحقرني لصغر سني وإن أمي قد أقسمت على أن لا أرجع،
وقالت: يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر وهب نفسك
لله واطلب مجاورة الله تعالى ومجاورة أبيك مع إخوانك
الصالحين في الجنة فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيّ
فإنه قد بلغني أن الشهيد يشفع في سبعين من أهله وسبعين
من جيرانه، ثم ضمتني إلى صدرها ورفعت رأسها إلى السماء
وقالت: إلهي وسيدي ومولاي هذا ولدي وريحانة قلبي وثمرة
فؤادي سلمته إليك فقربه من أبيه.

فلما سمعت كلام الغلام بكيت بكاءاً شديداً أسفاً على
حسنه وجمال شبابه ورحمة لقلب والدته وتعجباً من صبرها
عنه. فقال: يا عم مم بكاؤك؟ إن كنت تبكي لصغر سني فإن
الله يعذب من هو أصغر مني إذا عصاه. قلت: لم أبك لصغر
سنك ولكن أبكي لقلب والدتك كيف تكون بعدك.

وسرنا ونزلنا تلك الليلة فلما كان الغداة رحلنا والغلام
لا يفتر من ذكر الله تعالى، فتأملته فإذا هو أفرس منا
إذا ركب وخادمنا إذا نزلنا منزلا، وصار كلما سرنا يقوى
عزمه ويزداد نشاطه ويصفو قلبه وتظهر علامات الفرح عليه.
فلم نزل سائرين حتى أشرفنا على ديار المشركين عند غروب
الشمس فنزلنا فجلس الغلام يطبخ لنا طعاما لإفطارنا وكنا
صياما، فغلبه النعاس فنام نومة طويلة فبينما هو نائم إذ
تبسم في نومه فقلت لأصحابي ألا ترون إلى ضحك هذا الغلام
في نومه، فلما استيقظ قلت: بني رأيتك الساعة ضاحكاً
مبتسماً في منامك، قال: رأيت رؤيا فأعجبتني وأضحكتني.
قلت: ما هي. قال: رأيت كأني في روضة خضراء أنيقة فبينما
أنا أجول فيها إذ رأيت قصراً من فضة شُرفه من الدر
والجواهر، وأبوابه من الذهب وستوره مرخية، وإذا جواري
يرفعن الستور وجوههن كالأقمار فلما رأينني قلن لي: مرحبا
بك فأردت أن أمد يدي إلى إحداهن فقالت: لا تعجل ما آن
لك، ثم سمعت بعضهن يقول لبعض هذا زوج المرضية، وقلن لي
تقدم يرحمك الله فتقدمت أمامي فإذا في أعلى القصر غرفة
من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر قوامه من
الفضة البيضاء عليه جارية وجهها كأنه الشمس لولا أن الله
ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء
الجارية. فلما رأتني الجارية قالت: مرحبا وأهلا وسهلا يا
ولي الله وحبيبه أنت لي وأنا لك فأردت أن أضمها إلى صدري
فقالت: مهلا، لا تعجل، فإنك بعيد من الخنا، وإن الميعاد
بيني وبينك غداً بعد صلاة الظهر فأبشر.

قال أبو قدامة: قلت له: رأيت خيراً، وخيراً يكون. ثم
بتنا متعجبين من منام الغلام، فلما أصبحنا تبادرنا
فركبنا خيولنا فإذا المنادي ينادي: يا خيل الله اركبي
وبالجنة أبشري، انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا. فما كان
إلا ساعة، وإذا جيش الكفر خذله الله قد أقبل كالجراد
المنتشر، فكان أول من حمل منّا فيهم الغلام فبدد شملهم
وفرق جمعهم وغاص في وسطهم، فقتل منهم رجالاً وجندل
أبطالاً فلما رأيته كذلك لحقته فأخذت بعنان فرسه وقلت:
يا بني ارجع فأنت صبي ولا تعرف خدع الحرب. فقال: يا عم
ألم تسمع قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا
لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار}، أتريد أن
أدخل النار؟ فبينما هو يكلمني إذ حمل علينا المشركون
حملة رجل واحد، حالوا بيني وبين الغلام ومنعوني منه
واشتغل كل واحد منا بنفسه.

وقُتل خلق كثير من المسلمين، فلما افترق الجمعان إذ
القتلى لا يحُصون عددا فجعلت أجول بفرسي بين القتلى
ودماؤهم تسيل على الأرض ووجوههم لا تعرف من كثرة الغبار
والدماء، فبينما أنا أجول بين القتلى وإذا أنا بالغلام
بين سنابك الخيل قد علاه التراب وهو يتقلب في دمه ويقول:
يا معشر المسلمين، بالله ابعثوا لي عمي أبا قدامة فأقبلت
عليه عندما سمعت صياحه فلم أعرف وجهه لكثرة الدماء
والغبار ودوس الدواب فقلت: أنا أبو قدامة. قال: يا عم
صدقت الرؤيا ورب الكعبة أنا ابن صاحبة الشكال، فعندها
رميت بنفسي عليه فقبلت بين عينيه ومسحت التراب والدم عن
محاسنه وقلت: يا بني لا تنس عمك أبا قدامة في شفاعتك يوم
القيامة. فقال: مثلك لا يُنسى لا تمسح وجهي بثوبك ثوبي
أحق به من ثوبك، دعه يا عم ألقى الله تعالى به، يا عم
هذه الحوراء التي وصفتها لك قائمة على رأسي تنتظر خروج
روحي وتقول لي عجّل فأنا مشتاقة إليك، بالله يا عم إن
ردّك الله سالماً فتحمل ثيابي هذه المضمخة بالدم لوالدتي
المسكينة الثكلاء الحزينة وتسلمها إليها لتعلم أني لم
أضيع وصيتها ولم أجبن عند لقاء المشركين، واقرأ مني
السلام عليها، وقل لها أن الله قد قبل الهدية التي
أهديتها، ولي يا عم أخت صغيرة لها من العمر عشر سنين كنت
كلما دخلت استقبلتني تسلم علي، وإذا خرجتُ تكون آخر من
يودعني عند مخرجي، وقد قالت لي بالله يا أخي لا تبط عنّا
فإذا لقيتَها فاقرأ عليها مني السلام وقل لها يقول لك
أخوك: الله خليفتي عليك إلى يوم القيامة، ثم تبسم وقال
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق
الله ورسوله، ثم خرجت روحه فكفناه في ثيابه ووريناه رضي
الله عنه وعنا به.

فلما رجعنا من غزوتنا تلك ودخلنا الرقة لم تكن لي همة
إلا دار أم الغلام، فإذا جارية تشبه الغلام في حسنه
وجماله وهي قائمة بالباب وتقول لكل من مر بها: يا عم من
أين جئت فيقول من الغزو، فتقول: أما رجع معكم أخي
فيقولون لا نعرفه، فلما سمعتها تقدمت إليها فقالت لي: يا
عم من أين جئت، قلت: من الغزو قالت: أما رجع معكم أخي ثم
بكت وقالت ما أبالي، يرجعون وأخي لم يرجع فغلبتني
العبرة، ثم قلت لها: يا جارية قولي لصاحبة البيت أن أبا
قدامة على الباب، فسمعت المرأة كلامي فخرجت وتغير لونها
فسلمت عليها فردت السلام وقالت: أمبشراً جئت أم معزياً.
قلت: بيّني لي البشارة من التعزية رحمك الله. قالت: إن
كان ولدي رجع سالماً فأنت معز، وإن كان قُتل في سبيل
الله فأنت مبشر. فقلت: أبشري. فقد قُبلت هديتك فبكت
وقالت: الحمد لله الذي جعله ذخيرة يوم القيامة، قلت فما
فعلت الجارية أخت الغلام. قالت: هي التي تكلمك الساعة
فتقدمت إلي فقلت لها إن أخاك يسلم عليك ويقول لك: الله
خليفتي عليك إلى يوم القيامة، فصرخت ووقعت على وجهها
مغشياً عليها، فحركتها بعد ساعة، فإذا هي ميتة فتعجبت من
ذلك ثم سلمت ثياب الغلام التي كانت معي لأمه وودعتها
وانصرفت حزيناً على الغلام والجارية ومتعجباً من صبر
أمهما.

من الموقع التالي
http://www.crosswinds.net/~kotop/kotob/qisas-abu-qudamah.htm

السبت، 6 سبتمبر 2008

نقض نظرية التطور باختصار

حتى مؤيدو نظرية التطور لا يستطيعون تفسير نشوء الخلية الاولى التي (يقولون عنها) والتي يوجد فيها آلاف القطع المتحركة التي تعمل بين بعضها البعض بتنسيق مقصود وكامل. وهم بدلا من ان يستدلوا من هذا التشابه المدهش بين الكائنات الحية من ان الخالق واحد شطوا الى انها تتطور من بعضها البعض مع ان الطفرات الطبيعية في الجينات تتجه نحو الاسوأ دائما. ثم ان التأييد لهذه النظرية هو من قبل الفئات الحاكمة في المجتمعات الغربية باعتبارها وسيلة لمنع ارجاع الدين الى مجتمعاتهم العلمانية ويحاربون هذا التوجه بلا هوادة وامامهم شبح تاريخ التحكم رجال الدين النصراني البشع في القرون الوسطى.